الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين

هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار، منهم عبد الله بن أبي ، [ ص: 322 ] والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، ومن اتبعهم، فقال بعضهم:ائذن لي ولا تفتني، وقال بعضهم:ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاء منه عليهم، وأخذا بالأسهل من الأمور، وتوكلا على الله. وقال مجاهد : قال بعضهم: نستأذنه فإن أذن لنا في القعود قعدنا، وإلا قعدنا، فنزلت الآية في ذلك، وقالت فرقة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا، وقدم ذكر العفو قبل العتاب إكراما له صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو بن ميمون الأودي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء، هذه وأمر أسارى بدر ، فعاتبه الله فيهما، وقالت فرقة: بل قوله سبحانه في هذه الآية: عفا الله عنك استفتاح كلام، كما تقول: أصلحك الله، وأعزك الله، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم ذنب يعفى عنه، لأن صورة الاستنفار وقبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأما قوله سبحانه: لم أذنت فهي على معنى التقرير.

وقوله: الذين صدقوا يريد: في استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك، وقوله: وتعلم الكاذبين يريد: في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري : معناه: حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكافرين في ألا عذر لهم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون، وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، والأول أصوب، والله أعلم. وأدخل الطبري أيضا في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور فإذا [ ص: 323 ] استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله له أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.

وقوله تعالى: لا يستأذنك الآية، نفي عن المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف دون عذر كما فعل الصنف المذكور من المنافقين.

وقوله: أن يجاهدوا يحتمل أن تكون "أن" في موضع نصب على معنى: لا يستأذنون في التخلف كراهية أن يجاهدوا، قال سيبويه : ويحتمل أن تكون في موضع خفض.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

على معنى: لا يحتاجون إلى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا، بل يمضون قدما، أي: فهم أحرى ألا يستأذنوا في التخلف، ثم أخبر بعلمه تعالى بالمتقين، وفي ذلك تعيير للمنافقين وطعن عليهم بين.

التالي السابق


الخدمات العلمية