الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر ولا تعسر

قال [الشيخ الإمام] العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه:

الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما بلا عدد.

أما بعد، فهذه قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب، ولها خلق الخلق، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تحصل السعادة لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوة [لأعدائه] ، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض.

وقد تكلمت على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا أن كل عمل يعمله عامل فلا بد فيه من شيئين: من مراد بذلك العمل هو المطلوب المقصود، ومن [حركة إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد ... المطلوبة بالوسائل، [ ص: 6 ] والإرادة في الباطن ... الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل الظاهر نسبة الروح إلى الجسد، ... أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا بد لكل جسم حي من روح، ولا بد لكل جسم حي من إرادة ونية.

ثم إن الروح إن كانت طيبة كان الجسم طيبا، وإن كانت خبيثة كان الجسم خبيثا، فكذلك العمل والنية، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .

فهذا اللفظ عام في كل عمل كائنا ما كان، هو بنيته، سواء كانت صورته صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والأكل والشرب وغير ذلك.

وسبب الحديث كان مما صورته صورة العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من جهة كونه سفرا، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين من جهة كون السفر كان إلى دار الإسلام ومقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله نوعين: أحدهما: ما كان [ ص: 7 ] إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر للنكاح.

وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما نواه، وهو المقصود المراد بالعمل. وهذا الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قبول الأعمال أو غير ذلك، كما يضمره بعض الفقهاء، وإنما حملهم على ذلك توهمهم أن النية المراد بها النية المقبولة، أو الصحيحة المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث ما لم يذكر، ونقصوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص.

ثم إن هذا ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها"، فقد جمع في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" يعم من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن نوى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك: إنه أراد قبول الأعمال وصحتها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟

ثم ما أضمروه يرد عليه نوع من الفساد ليس هذا موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية