الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ تفريع ]

                                                      الأمر الثالث : أن مما يتفرع على هذا الخلاف تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، فمن ذهب إلى إجرائه على العموم قبل البحث [ ص: 60 ] عن المتخصص كالصيرفي ، قال : لا يجوز أن يتأخر عنه بيان الخصوص ، إن كان ثم مراد كما يمتنع تأخير الاستثناء ، ومن منع اقتضاء عمومه ، أجاز تأخير البيان عن وقت الورود . وكذا ذكره ابن فورك في كتابه ، فقال : من ذهب إلى الاقتضاء بنفس السماع ، قال : لا يجوز أن يتأخر عنه بيان الخصوص إن كان ثم مراد ، ومن أبى المبادرة إلى الإمضاء جوزه وكذا قال إلكيا الهراسي ، وهذا موافق لأصل الصيرفي ، فإنه ممن يمنع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما سبق التصريح به في صدر كلامه . وهكذا نقله عنه الجمهور ، ولكن إمام الحرمين نقل عنه هنا أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، واستدل عليه بأنه من الرادين عليهم في كتبه ، فألزمه التناقض ، فقال : القول بالإجراء على العموم إنما يليق بمذهب من يمنع تأخير البيان ، أما من يجوزه فلا ، فالقول بجواز ورود المخصص مع القول بوجوب العموم تناقض . وقد علمت أن الصيرفي صرح في صدر كلامه في هذه المسألة بمنع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فالذي ذكره مستقيم ، وكذا نقله عنه ابن الصباغ في العدة وغيره . وقول الإمام : إنه من الرادين على مانعي تأخير البيان في تصانيفه صحيح ، ولكن في غير مسألة تأخير البيان ، نعم ، سيأتي عن الأستاذ أبي إسحاق رجوع الصيرفي عن هذا المذهب ، ولم يقف جماعة على تحرير النقل عن الصيرفي في مسألة تأخير البيان ، وظنوا صحة ما نقله عنه الإمام فأخذوا في تأويل كلامه .

                                                      قال المازري : قد أغلظ الإمام القول على الصيرفي ، ونسبه إلى الغباوة ، وهو غير لائق ، فإنه إمام جليل مع إمكان تأويل كلامه . [ ص: 61 ]

                                                      قال المقترح : لا تناقض ، لعدم تواردهما على محل واحد ، فإن محل الاعتقاد إنما هو وجوب العمل بالعموم ، والتجويز راجع إلى تبين مراد اللفظ . انتهى . وهذا بناء منه على أن الصيرفي كلامه في وجوب العمل لا الاعتقاد ، والإمام بنى اعتراضه على أن كلام الصيرفي في الاعتقاد ، وقد سبق تحريره .

                                                      وقال الصفي الهندي : لا نسلم أن الجزم باعتقاد العموم إنما يليق بمذهب المانع من تأخير البيان ، بل التناقض المذكور لازم لهم أيضا إلا من لم يجوز سماع المكلف العام دون الخاص ، فإن التناقض المذكور إنما يندفع عنهم لا غير ، وهذا لأنهم وإن أوجبوا اتصال المخصص بالعام في الورود ، لكنهم لم يوجبوا وصوله إلى من يصل إليه العام ، فيحتمل أن يظهر المخصص للمكلف بعد سماع العام ، وإن كانا عند الورود مقترنين ، ومع هذا الاحتمال والتجويز كيف يجب عليه القطع بالعموم ؟ [ الغزالي ينقل الإجماع على وجوب البحث قبل الحكم بالعام ]

                                                      الأمر الرابع : قيل : إن الغزالي خالف طريقة الناس في هذه المسألة ، فقال في " المستصفى " : لا خلاف أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة المخصصة ، لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص ، والشرط بعد لم يظهر ، وكذلك كل دليل يمكن فيه المعارضة ، وذلك كإلحاق الفرع بالأصل في القياس ، فالعلة دليل بشرط العلم بنفي الفارق . وقد تبعه على ذلك الآمدي وابن الحاجب ، فنقلا الإجماع على امتناع [ ص: 62 ] العمل بالعام قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون مخصصا ، وغلطهما الشيخ تقي الدين في " شرح العنوان " متمسكا بكلام الشيخ أبي إسحاق السابق ومن نقل الخلاف مقدم على من نقل الإجماع لمزيد الاطلاع . انتهى .

                                                      قلت : وهذا لا ينافي نقل الخلاف ، فقد بينا أن ذلك طريقة في المذهب قاطعة بذلك ، وطريقة حاكية للخلاف ، على أن من الناس من عكس هذه الطريقة ، فقال : المعروف ما ذكره الغزالي ومن تبعه ، وخلاف الصيرفي إنما هو في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به ، وإذا ظهر مخصص يتغير الاعتقاد ، هكذا نقله عنه إمام الحرمين والآمدي وغيرهما . وعلى هذا فنصب الخلاف على التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص كما نقله الإمام فخر الدين وأتباعه غلط بل هما مسألتان : اعتقاد العموم وهي مسألة خلاف الصيرفي ، وامتناع التمسك به قبل البحث عن المخصص ، وهي مسألة إجماع . واستشكل آخرون الاتفاق على امتناع العمل مع إيجاب البعض اعتقاد عمومه ، إذ لا يظهر لوجوب اعتقاد عمومه فائدة إلا العمل به فعلا أو كفا ، فلو قيل : قاتلوا الكفار ، أو اقتلوهم ، واعتقدنا عمومه ، وجب علينا العمل بموجبه في قتالهم ، حتى يأتي المخصص ، وإن لم يكن الأمر هكذا لم يكن لوجوب اعتقاد عمومه فائدة والصواب أن الخلاف ثابت في الحالين ، [ ص: 63 ] وممن نصب فيهما الشيخ أبو إسحاق في " شرح اللمع " فقال : هل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها ؟ قال الصيرفي : يجب الأخير ، وقد سبق توهم إمام الحرمين تخصيص النقل عنه بذلك .

                                                      وقال بعض شراح " اللمع " : يجب اعتقاد عمومها في الأزمان والأعيان بلا خلاف ، وهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها قبل البحث عن المخصص ؟ فيه الوجهان ، وأيضا فالكل متفقون في النقل عن الصيرفي أنه يجب اعتقاد عمومه ، ومع الجزم بالعموم يستحيل أن لا يجوز التمسك به ، فكيف يستقيم نقل الإجماع في منع التمسك به ، وكيف تجعل مسألة اعتقاد العموم غير مسألة جواز التمسك به هو لازمه ، ، وهذا مما لا يعقل ، وأيضا القول بجواز التمسك به أولى وأظهر من وجوب اعتقاد عمومه ، ثم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد ، فإنه مذهب ضعيف أغلظ إمام الحرمين القول فيه بسببه ، بخلاف العمل بالعام ابتداء فإن له وجها وجيها .

                                                      قال الأصفهاني في " شرح المحصول " : هما مسألتان : إحداهما قبل مجيء وقت العمل ، والحق فيها ما اختاره إمام الحرمين أن العموم ظاهر ، والعمل مقطوع به .

                                                      وثانيتهما : عند وقت العمل به ، وهي مسألة الغزالي ، والحق فيها ما اختاره . والذي يتحصل من كلامهم أنه لا يجوز الهجوم على العمل بمقتضى العموم دون البحث عن المخصص . وأما الخلاف المحكي عن الصيرفي وابن سريج فهو حكم مقتضى العموم ابتداء ، ويعتمد على ظهور التخصيص ابتداء ، والخلاف في العام في إجرائه على عمومه ، وفي الخاص في إجرائه [ ص: 64 ] على حقيقة واحدة ، فمن أوجب الاستقصاء عن المخصص أوجب البحث عن المقتضى بحمل اللفظ على المجاز . وهكذا جعل الهندي خلاف الصيرفي قبل حضور وقت العمل به .

                                                      قال : فإن حضر وقته وجب العمل به إجماعا لكن مع الجزم بعدم المخصص عند جمع كالقاضي ، ومع ظنه عند آخرين كإمام الحرمين وابن سريج والغزالي وهو الأولى ، انتهى . وقد سبق أن الصيرفي والجمهور أطلقوا النقل عنه من غير فرق بين حضور وقت العمل به أم لا ، ونقله الإجماع في الحالة الثانية لا يستقيم لما سيأتي من كلام ابن الصباغ . قال إمام الحرمين : إذا حضر وقت العمل بالعام ، فقد يقطع المكلف بمقتضى العموم لقرائن تتوفر عنده ، فيصير العام كالنص ، وقد لا يقطع بذلك لعدم القرائن المفيدة للقطع ، بل يغلب على ظنه العموم فيعمل بناء على غلبة الظن كما في خبر الواحد والقياس .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية