الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ المذاهب في المدة التي يجب فيها البحث عن مخصص ]

                                                      الأمر الخامس : إذا أوجبنا البحث عن المخصص فاختلف في المدة التي يجب فيها البحث على أربعة مذاهب حكاها في " المستصفى " .

                                                      أحدها : يكفيه أدنى نظر وبحث كالذي يبحث عن متاع في بيت ولا يجده ، فيغلب على ظنه عدمه .

                                                      والثاني : يكفيه غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث .

                                                      والثالث : لا بد من اعتقاد جازم بأنه لا دليل ، ولا يكفي الظن .

                                                      ورابعها : لا بد من القطع بانتفاء الأدلة ، وإليه ذهب القاضي ، [ ص: 65 ] والقطع به ممكن ، ومنع غيره ذلك الإمكان ، لأن غاية المجتهد بعد الاستقصاء الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود ، ولا يلزم منه إلا الظن بعدم الوجود لا القطع بعدمه ، لعدم انضباط الأدلة ، واحتمال الشذوذ .

                                                      وقال القاضي : ولا يكفي عدم وجدان المخصص لمجتهد سابق ، ولا قوله ، ولو كان الحكم خاصا لنصب الله عليه دليلا للمكلفين وليكفهم ذلك . واعلم أن هذا القول قريب من الذي قبله فإن المعتقد أيضا لا يجوز النقيض وإلا لكان ظانا ، لكن يفترقان في أن المعتقد على الثالث يكون مصيبا في الحكم ، وإن تبين له الغلط بعد ذلك ، والقاضي يرى أن الاعتقاد من غير علم لا يكون مطلوبا في الشريعة ، قاله الإبياري والمختار وفاقا لإمام الحرمين وابن سريج والغزالي والمحققين الأول ، فقال : عليه تحصيل علم أو ظن باستقصاء البحث ، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه ، وأما القطع فبانتفائه في حقه يتخير عن نفسه عن الوصول إليه بعد بذل وسعه ، وهذا الظن بالصحابة في مسألة المخابرة ونحوها ، وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر .

                                                      ويجتمع من كلام الأصحاب في المسألة أقوال أخر ، فقد قال : الماوردي والروياني كلاهما في الأقضية : ليس لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر ، وإنما هو معتبر بما يؤدي الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس وقال القفال الشاشي في كتابه : ليس لمدة البحث زمن محدد ، ولكنها معقولة ، وهذا كما أن المجتهد إذا لم يجد نصا في الحادثة يجتهد حتى يجد ما يتعلق به ، وليس له في ذلك زمن محدد ، ومعلوم أن من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آية بلفظ عام ، كان عليه أن يستوعبها سماعا فلعله استثنى عقب الكلام . فإذا استوعبها ، ولم يجد فيها استثناء ولا خصوصا اعتقد عمومها ، وعمل بما يوجبه لفظها . [ ص: 66 ] وليس لمدة الاستماع وقت محدد ، ولكن بانتهاء الكلام ، فكذلك من سمع آية عامة نظر ، ولا مدة لنظره أكثر من زمان يخطر بباله ما قد علمه من الأصول فيه ، فإن لم يجد في ذلك ما يدل على خصوصها واحتاج إلى التقييد أجراها على العموم ، وإن لم يحتج سأل من يعلم أن عنده علما أو ازداد في التأمل بما عنده من الأصول ، فلعله أن يتنبه به على خصوص إن كان فيها كما سأل الصحابة عن قوله تعالى : { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } وقالوا أينا لم يظلم ؟ فأنزل الله تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وسألوا النبي عليه السلام عن قوله : { من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاءه كره لقاءه } فقالوا أينا لا يكره الموت ؟ فكشف لهم عن المعنى . وليس كل ما قدر حصره بمقدار ، تعلق الحكم به ، كما تقول في التواتر : أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب ، قال : وفي ذلك إبطال قول من نظر إلى إبطال النظر في معنى العموم لجهل المدة التي يقع فيها النظر .

                                                      وقال القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " : ولا يوجب التوقف أبدا ; بل هو كالحاكم يتوقف حتى يسأل عن عدالة الشهود ، ويجوز أن يكون النظر الأول هو الواجب دون التكرار ، كالمجتهد تنزل به الحادثة .

                                                      قال الشيخ في " شرح الإلمام " : الموجبون للبحث عن المخصص ، إن أرادوا به أنه لا بد للمجتهد من نظره فيما تأخر من النصوص ، أو ما يتيسر له مراجعته مما ستعرفه باحتمال التخصيص فذلك صحيح ، وإن أرادوا به [ ص: 67 ] التوقف حتى يقع على ما لعله لم يبلغه من النصوص ، ولا يشعر به مع قرب المراجعة فلا يصح ، والدليل عليه أن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث في الأمصار والبلاد عما لعله أن يكون تخصيصا . وبهذا يجاب عن قول القائل بالوجوب إنه لو كان كذلك لكانت رتبة الاجتهاد ممكنة لكل أحد حصلت له أدنى أهلية ، لأنا أولا شرطنا أن يكون أهلا للاجتهاد ، وذلك يقتضي اطلاعه على جملة من النصوص زائدة لا يصل إليها من له أدنى أهلية . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية