الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
التقسيم

وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم ؛ لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم : الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة ، أو لا مفترقة ولا مجتمعة ، أو مجتمعة ومفترقة معا ، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق ، فإن هذه القسمة صحيحة عقلا ، لكن بعضها يستحيل وجوده ، فإن الشيء لا يكون مجتمعا متفرقا في حالة واحدة ، وإنما المراد هنا بالتقسيم ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده ، وهو استيفاء المتكلم أقسام الشيء ، بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء ، كقوله تعالى : فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ( فاطر : 32 ) فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة : إما عاص ظالم نفسه ، وإما سابق مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد فيها ، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها .

[ ص: 515 ] ومثله قوله : وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون ( الواقعة : 7 إلى 10 ) وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها ، وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم ، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون ، والسابقون هم السابقون بالخيرات .

كذلك قوله تعالى : له ما بين أيدينا وما خلفنا ( مريم : 64 ) الآية ، فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها .

وقوله : والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ( النور : 45 ) إلى قوله : ما يشاء ( النور : 45 ) وهو في القرآن كثير وخصوصا في سورة ( براءة ) .

ومنه قوله تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ( الرعد : 12 ) وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ، ولا ثالث لهما .

وقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( الروم : 17 - 18 ) فاستوفت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة .

وقوله : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ( آل عمران : 191 ) فلم يترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات .

ومثله آية يونس : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ( الآية : 12 ) .

لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة ، وذلك أن المراد بالذكر في الأولى الصلاة ، فيجب فيها تقديم القيام عند العجز عن القعود ، ثم عند الاضطجاع ، وهذه بخلاف الضر ، فإنه يجب فيه تقديم الاضطجاع ، وإذا زال بعض الضر قعد المضطجع ، وإذا زال كل الضر قام القاعد ، فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة .

[ ص: 516 ] فإن قلت : هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة ، فإنها تحصل في الكلام حسن اتساق وائتلاف الألفاظ مع المعاني ، وقد عدل عنها إلى " أو " التي سقط معها ذلك .

قلت : يأتي التضرع على أقسام : فإن منه ما يتضرع المضرور عند وروده ، ومنه ما يقعده ، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم لا يبلغ به شيئا ، والدعاء عنده أولى من التضرع ، فإن الصبر والجزع عند الصدمة الأولى ، فوجب العدول عن الواو لتوخي الصدق في الخبر ، والكلام مع ذلك موصوف بالائتلاف ، ويحصل النسق والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد ، وبالثاني عن أشخاص ، فغلب الكثرة ، فوجب الإتيان بـ " أو " وابتدئ بالشخص الذي تضرع ؛ لأن خبره أشد فهو أشد تضرعا ، فوجب تقديم ذكره ، ثم القاعد ثم القائم ، فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها .

وقوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ( الشورى : 49 - 50 ) قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام : اشتمل عليها الوجود ؛ لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث ، أو بهبة الذكور ، أو يجمعهما له ، أو لا يهب شيئا ، وقد جاءت الأقسام في هذه الآية لينتقل منها إلى أعلى منها ، وهي هبة الذكور فيه ، ثم انتقل إلى أعلى منها ، وهي هبتهما جميعا ، وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة ، وأفرد معنى الحرمان بالتأخير ، وقال فيه : ( يجعل ) فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني ، كقوله : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما ( الواقعة : 63 - 65 ) فذكر امتداد إنمائه بلفظ الزرع ، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل .

[ ص: 517 ] وقيل : إنما بدأ سبحانه بالإناث لوجوه غير ما سبق .

أحدها : جبرا لهن ؛ لأجل استثقال الأبوين لمكانهن .

الثاني : أن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء ، لا ما يشاء الأبوان ، فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا ، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء ، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا .

الثالث : أنه قدم ذكر ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن ، أي : هذا النوع الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر .

الرابع : قدمهن لضعفهن ، وعند العجز والضعف تكون العناية أتم .

وقيل : لينقله من الغم إلى الفرج .

وتأمل كيف عرف سبحانه الذكور بعد تنكير ، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم ، وجبر نقص المتأخر بالتعريف ، فإن التعريف تنويه .

وهذا أحسن مما ذكره الواحدي أنه عرف الذكور لأجل الفاصلة .

ولما ذكر الصنفين معا قدم الذكور ، فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير ، والله أعلم بما أراد .

بقي سؤال آخر ؛ وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو ، والثالث بـ " أو " ، ولعله لأن هبة كل من الإناث والذكور قد لا يقترن بها ، فكأنه وهب لهذا الصنف وحده ، أو مع غيره ، فلذلك تعينت " أو " ، فتأمل لطائف القرآن وبدائعه .

[ ص: 518 ] ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له ؛ لأنه ليس واحدا من المذكورين ، ولا حجة فيه ؛ لأنه مقام امتنان ، والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم ، أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر ، والخنثى لا يخرج عن أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية