الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
منقبة الأنصار -رضي الله عنهم-

عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم، أحبه الله، ومن أبغضهم، أبغضه الله متفق عليه. فيه فضيلة للأنصار عظمى، وقد ورد مثله في حق علي -عليه السلام- وهو من المهاجرين.

وفي حديث أنس مرفوعا: «آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار متفق عليه.

وفي حديث طويل عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: للأنصار -: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا . متفق عليه.

ولا شك أن الرجعة بخاتم الرسل وسيد الكل، أفضل من جميع الفضائل، والرضا بها فضيلة أخرى خص الله تعالى بها جماعة الأنصار.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « لولا الهجرة، لكنت امرأ من الأنصار »؛ أي: لولا فضيلة الهجرة وشرافة نسبتها، لانتسبت إلى الأنصار، أو ديارهم، وانتقلت عن اسم المهاجرين إلى اسم الأنصار. وفيه: بيان إكرامهم، وفضل نسبة النصرة، ومع ذلك فيه إشارة إلى أفضلية الهجرة وجلال رتبة أهلها؛ لأنهم هجروا الأوطان، وتركوا الأموال والأولاد والأهل والمسكن؛ نصرة لله ورسوله. والنصرة والإيثار والإيواء فضيلة كاملة، لكنهم ساكنون في أوطانهم وأحيائهم، فالفضيلة هي بعد الهجرة للنصرة.

وقيل: المراد: إني لا أمتاز عنهم إلا بالهجرة، ولولا الهجرة، لكنت واحدا منهم مساويا لهم. وفيه تواضع لله، ورفع لمنزلتهم. [ ص: 449 ] ولو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار واديا وشعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها».

قال في «الترجمة»: يعني: إن اختلف الناس في الآراء والمذاهب، لاخترت رأيهم ومذهبهم. فالمقصود: حسن موافقتهم ومرافقتهم لمشاهدة حسن وفائهم وجوارهم، لا اتباعهم واقتفاؤهم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- متبوع مطلق، والكل تابعوه. انتهى.

الأنصار شعار، والناس دثار الشعار - بالكسر: الثوب المتصل الملتصق بالجسد والشعر، شبههم به؛ لكمال الاتصال والقرب. والدثار -بالكسر-: الثوب الخارج الذي يلبسونه على فوق، كالرداء ونحوه إنكم سترون بعدي أثرة - بفتحتين، وبضم الهمزة وسكون المثلثة، وقد يفتح: اسم من الاستئثار بمعنى: الاستبداد والاختيار. والمعنى: يؤثر الناس عليكم في الإمارة وغيرها، مع أنكم أفضل منهم.

قال في «الترجمة»: وقد وقع كما أخبر، سيما في زمن عثمان -رضي الله عنه- وبعض الأعصار الأخرى، حين غلب بنو أمية، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فيه بشارة لهم بدخول الجنة جزاء لصبرهم.

قال في «الترجمة»: جاء بعض الأنصار عند معاوية في زمن إمارته، فشكوا عن بعض المهاجرين، فلم يزل شكواه، ولم يعالجه. فقال الأنصاري: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إنهم يرون بعده أثرة». فقال « معاوية »: فبم أمركم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: بالصبر، فقال: اصبروا؛ فإنه أمركم بهذا . رواه البخاري .

قلت: إن صحت هذه الحكاية، ففيه شائبة سوء أدب من معاوية -رحمه الله تعالى- في حضرته -صلى الله عليه وسلم-، وجراءة قبيحة، بل الذي كان يجب عليه أن يزيل [ ص: 450 ] شكواه، ويعدل في أمره وفحواه. والله أعلم.

وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أي: للأنصار-: « كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم »؛ أي: إلى ثوابه سبحانه، وإلى دياركم، « المحيا محياكم، والممات مماتكم »؛ أي: لا أفارقكم حيا وميتا، بل أحيا وأموت معكم.

فيه فضل الأنصار وأي فضل! بكون حياته ومماته -صلى الله عليه وسلم- معهم، ولا أفضل من ذلك.

قالوا: والله! ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله.

«الضن»، و «الضنة» - بالكسر-: البخل؛ من ضن يضن -بالكسر والفتح- قال: « فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم » رواه مسلم، والحديث بتمامه مذكور في «المشكاة»، فراجعه.

وعن أنس -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى صبيانا ونساء مقبلين من عرس، فقام النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي ؛ يعني: الأنصار. متفق عليه.

العرس -بضم العين- طعام الوليمة، وفي «القاموس»: الإقامة في الفرح. والمعنى: اللهم أنت تعلم صدقي فيما أقول في حق الأنصار.

وعنه -رضي الله عنه- قال: مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقالا: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما -روي أنه العباس - على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر، ولم يصعد بعد ذلك اليوم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم الأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي الكرش -بفتح الكاف وكسر الراء- لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة -بفتح العين وسكون الياء-: ما يجعل فيه الثياب. [ ص: 451 ] وفي «القاموس»: زنبيل من أديم، ومن الرجل: موضع سره ومعتمده.

وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم رواه البخاري .

وفي حديث آخر عن ابن عباس، قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه، حتى جلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فإن الناس يكثرون، ويقل الأنصار حتى يكونوا في الناس بمنزلة الطعام، فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع فيه آخرين، فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم رواه البخاري .

قال في «المرقاة»: الأنصار هم الذين آووا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصروه في حال الضعف والعسر، وهذا أمر قد انقضى زمانه، لا يلحقهم اللاحق، فكلما مضى منهم واحد، مضى من غير بدل. انتهى.

وأقول: لا شك أن هذا الأمر ورد في حق أولئك الماضين، ولكن فضائل الآباء تسري في الأبناء، فمن رعى هذا الأمر النبوي في أبنائهم، فقد أحسن.

والمراد بالتجاوز عن مسيئهم: التجاوز عنهم في زلاتهم الصغائر، دون الإغماض عن الكبائر، كما ورد: « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ». وهكذا ينبغي أن يراعى فضائل المهاجرين في أخلافهم، مهما أمكن، وكذلك لا ينسى حقوق أهل البيت النبوي وعترته، وتعظيمهم، كما ورد. فالأصل يسري في الفرع، وإن كان قليلا في كثير. والله أعلم.

وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار » رواه مسلم .

قال في «الترجمة»: ظاهر الحديث تخصيص المغفرة بالمرتبتين، وإن حمل على آخر مراتب الأبناء الباقي منهم، لم يكن بعيدا، بل إن حمل الأبناء على معنى الأولاد لا يكون مستبعدا. انتهى.

[ ص: 452 ] قلت: هذا الاحتمال يصح، والأول أولى.

وفي حديث أبي أسيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير » متفق عليه.

والخير الأول للتفضيل، والآخر بمعنى أصل الخيرية، وفيه تعميم بعد التخصيص.

التالي السابق


الخدمات العلمية