الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل فأما اليمين " بالطلاق والعتاق " في اللجاج والغضب : مثل أن يقصد بها حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا : كقوله الطلاق يلزمني لأفعلن [ ص: 259 ] كذا أو لا فعلت كذا وإن فعلت كذا فعبيدي أحرار أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار . فمن قال من الفقهاء المتقدمين : إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضا . وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزئه الكفارة فاختلفوا هنا - مع أنه لم يبلغني عن أحد من الصحابة في الحلف بالطلاق كلام وإنما بلغنا الكلام فيه عن التابعين ومن بعدهم ; لأن اليمين به محدثة لم يكن يعرف في عصرهم . ولكن بلغنا الكلام في الحلف بالعتق كما سنذكره إن شاء الله . فاختلف التابعون ومن بعدهم - في اليمين بالطلاق والعتاق فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر ; وقالوا : إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزئه الكفارة ; بخلاف اليمين بالنذر . هذا رواية عوف عن الحسن ; وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم . فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال : كل يمين وإن عظمت ولو حلف بالحج والعمرة ; وإن جعل ماله في المساكين ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف أو عتق غلام في ملكه يوم حلف . فإنما هي يمين .

                وقال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر ؟ فقال : لا يقوم هذا مقام اليمين ; ويلزمه ذلك في الغضب والرضا . وقال سليمان بن داود : يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق وبه قال أبو خيثمة قال [ ص: 260 ] إسماعيل : وأخبرنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حازم أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا فسألت ابن عمر وابن عباس ؟ فقالا : أما الجارية فتعتق وأما قولها في المال فإنها تزكي المال .

                قال أبو إسحاق الجوزجاني : الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ولو كان المجرى فيها مجرى الأيمان لوجب على الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها . قلت : أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك ; فإن أكثر مفتيي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة . وإن أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة ; حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بالكفارة كان غريبا بين أصحابه المالكية وقال له السائل : يا أبا عبد الله هذا قولك ؟ فقال : قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح . فلما أفتى فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وابن أبي شيبة وعلي بن المديني ونحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة ; وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك [ ص: 261 ] لا يعلم خلافا في الطلاق والعتاق وإلا فسنذكر الخلاف إن شاء الله تعالى عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وقد اعتذر الإمام أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين " أحدهما " انفراد سليمان التيمي بذلك .

                " والثاني " معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير . وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد قال المروذي : قال أبو عبد الله : إذا قال : كل مملوك له حر . يعتق عليه إذا حنث ; لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال : وليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بكفارة إلا التيمي ; وغيره لم يذكروا العتق قال سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها المشي ؟ قال نعم أذهب إلى أن فيه كفارة يمين . وقال أبو عبد الله ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي . قلت : فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث ؟ قال : يعتق كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا الجارية تعتق ; ثم قال : ما سمعنا إلا من عبد الرزاق عن معمر . قلت : فإيش إسناده ؟ : قال : معمر عن إسماعيل ; عن عثمان بن أبي حازم عن ابن عمر وابن عباس وقال : إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى وهما مكيان .

                [ ص: 262 ] فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر بأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه عارض ما روي من الكفار عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة . وقال صالح بن أحمد قال أبي : وإذا قال : جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا ؟ قال : قال ابن عمر وابن عباس : يعتق . وإذا قال : كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته فيه كفارة فإن ذا لا يشبهه ذا ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران . وأصحاب أبي حنيفة يقولون : إذا قال الرجل : مالي في المساكين أنه يتصدق به على المساكين وإذا قال : مالي على فلان صدقة . وفرقوا بين قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج ; وبين قوله : فامرأتي طالق ; أو فعبدي حر : بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما يكون بدلا عن غيره من الواجبات كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب وبقيت بدلا عن الصوم على العاجز عنه وكما يكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت ; فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره .

                وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما ; لأنهما لا يقبلان الفسخ ; بخلاف ما لو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق ; فإنه [ ص: 263 ] هنا لم يعلق العتق ; وإنما علق وجوبه بالشرط فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه ; ولهذا لو قال : إذا مت فعبدي حر . عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق ; ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور ; إلا قولا للشافعي ورواية عن أحمد . وفي بيعه الخلاف المشهور . ولو وصى بعتقه فقال : إذا مت فاعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر .

                وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن محمد بن عرفة في تاريخه : أن المهدي لما رأى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد إلى ابنه عزم على خلع عيسى ودعاهم إلى البيعة لموسى ; فامتنع عيسى من الخلع وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه وتطلق نساءه . فأحضر له المهدي ابن علاثة ومسلم بن خالد وجماعة من الفقهاء فأفتوه بما يخرجه عن يمينه واعتاض عما يلزمه في يمينه بمال كثير ذكره ولم يزل إلى أن خلع وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده . وأما " أبو ثور " فقال في العتق المعلق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب ; لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولها : إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر . وهذه القصة هي مما اعتمدها الفقهاء المستدلون في مسألة " نذر [ ص: 264 ] اللجاج والغضب " لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق . وعارض أحمد ذلك . وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه مع أن القياس عنده مساواته للعتق ; لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع . و " الصواب " أن الخلاف في الجميع - الطلاق وغيره - لما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق ; فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة : فالحلف بالطلاق ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة أو لا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه . ويكون قوله : إن فعلت كذا فأنت طالق . بمنزلة قوله : فعلي أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله : فعبيدي أحرار . بمنزلة قوله : فعلي أن أعتقهم . على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذلك - والله أعلم - لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم . " فأحد القولين " أنه يقع به كما تقدم .

                و " القول الثاني " أنه لا يلزم الوقوع . ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه [ ص: 265 ] كان يقول : الحلف بالطلاق ليس شيئا . قلت : أكان يراه يمينا ؟ قال : لا أدري . فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة ; لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه . وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر : كداود وأبي محمد بن حزم ; لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق . واختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبني على " ثلاث مقدمات " يخالفون فيها . " أحدها " كون الأصل تحريم العقود . " الثاني " أنه لا يباح ما كان في معنى النصوص . " الثالث " أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص . وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه ; إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب . وسنتكلم عليه .

                وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع قد ذكرناها وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة [ ص: 266 ] كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه وإحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية ; فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه ; ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر ; فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه . وأيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي طوالق لأفعلن : فهو بمنزلة قوله : مالي صدقة لأفعلن وعلي الحج لأفعلن . والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع قاله في البويطي وهو " كتاب مصري " من أجود كلامه وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة ويسمون ذلك الشرط صفة . ويقولون : إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك . وهذه التسمية لها وجهان . " أحدهما " أن هذا الطلاق موصوف بصفة ; ليس طلاقا مجردا عن صفة ; فإنه إذا قال : أنت طالق في أول السنة أو إذا طهرت . فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص ; فإن الظرف صفة للمظروف وكذلك إذا قال : إن أعطيتني ألفا فأنت طالق . فقد وصفه بعوضه .

                [ ص: 267 ] و " الثاني " أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات . فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى " حروف الصفات " سمي طلاقا بصفة كما لو قال : أنت طالق بألف . و " الوجه الأول " هو الأصل ; فإن هذا يعود إليه ; إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله تعالى . { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة ; فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه ; فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء .

                والدليل على هذا القول : الكتاب والسنة والأثر والاعتبار [ ص: 268 ] أما " الكتاب " فقوله سبحانه : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } فوجه الدلالة أن الله قال : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية كيف وهذا عام لم تخص منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي ; فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة . وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية