الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 328 ] بسم الله الرحمن الرحيم وقال شيخ الإسلام رحمه الله الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . قال الله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم } { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم } { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } فذكر الله اسم " الأيمان " في أربعة مواضع في قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وقوله { بما عقدتم الأيمان } وقوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقوله : { واحفظوا أيمانكم } وقوله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم } وهذا الاستفهام استفهام إنكار يتضمن النهي ; فإن الله لا يستفهم لطلب الفهم والعلم فإنه بكل شيء عليم ; ولكن مثل هذا يسميه أهل العربية " استفهام إنكار " واستفهام الإنكار يكون بتضمن الإنكار مضمون الجملة : إما إنكار نفي إن كان مضمونها خبرا وإما إنكار نهي إن كان مضمونها إنشاء .

                والكلام إما خبر وإما إنشاء . وهذا كقوله { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وقوله : { لم تقولون ما لا تفعلون } ونحو ذلك . فالله تعالى نهى نبيه عن تحريم الحلال كما نهى المؤمنين وأخبر أنه فرض لهم تحلة أيمانهم كما ذكر كفارة اليمين بعد النهي عن تحريم الحلال في سورة المائدة . وقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } هو ما ذكره [ ص: 330 ] في سورة المائدة . وكان سبب نزول التحريم تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الحلال : إما أمته مارية القبطية وإما العسل ; وإما كلاهما . وكذلك آية المائدة فإن طائفة من المسلمين كانوا قد حرموا الطيبات إما تبتلا وترهبا كما عزم على ذلك عثمان بن مظعون ومن وافقه من الصحابة حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ; وإما غير ذلك . وبين الله لهم أن الله جعل لمن حرم الحلال من هذه الأمة مخرجا ; وأن اليمين المتضمنة تحريمه للحلال له منها مخرج بالكفارة التي شرعها الله . ليسوا كالذين من قبلهم الذين كانوا إذا حرموا شيئا حرم عليهم ولم يكن لهم أن يكفروا قال تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } ولذلك قد قيل : إنهم كانوا إذا حلفوا على فعل شيء لزمهم ولم يكن لهم أن يكفروا ; ولهذا قالت عائشة : كان أبو بكر الصديق لا يحنث في اليمين حتى أنزل الله كفارة اليمين ; ولهذا أمر الله أيوب بما يحلل يمينه لأنه لم يكن لهم كفارة . فإن اليمين على الأشياء : تارة تكون حضا وإلزاما وتارة تكون منعا وتحريما .

                كما أن عهد الله ورسوله وحكمه على خلقه ينقسم إلى هذين القسمين ولذا كان " الظهار " في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا حتى أنزل الله فيه الكفارة وكذلك كان " الإيلاء " طلاقا حتى أنزل الله حكمه ; وذلك لأن الظهار نوع من التحريم ; فموجبه رفع الملك ; إذ الزوجة لا تكون محرمة على التأبيد . و " الإيلاء " يقتضي عندهم تحريم الوطء وذلك ينافي النكاح . [ ص: 331 ] وقد ذكر الله لفظ " اليمين " في مواضع من كتابه فقال تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين } - إلى قوله - { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين } { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } وقال تعالى في سورة براءة في سياق ذكر معاهدة المشركين : { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة } وقال تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون } { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به } وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها }

                وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة } قال أهل اللغة - وهذا لفظ الجوهري - اليمين القسم . والجمع أيمن وأيمان فقال : سمي بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا يمسك كل امرئ منهم على يمين صاحبه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية