الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 349 ] وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى كفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } فمتى كان واجدا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث ; فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك . " ومقدار ما يطعم " مبني على أصل وهو أن إطعامهم : هل هو مقدر بالشرع ؟ أو بالعرف ؟ فيه قولان للعلماء . منهم من قال : هو " مقدر بالشرع " وهؤلاء على أقوال . منهم من قال : يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر ; كقول أبي حنيفة وطائفة . ومنهم من قال : يطعم كل واحد نصف صاع من تمر وشعير أو ربع صاع من بر ; وهو مد كقول أحمد وطائفة . ومنهم من قال : بل يجزئ في الجميع مد من الجميع كقول الشافعي وطائفة . " والقول الثاني " أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع ; فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا .

                وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل [ ص: 350 ] بن إسحاق : كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة قال مالك : وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم ; لقول الله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا . والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول ; ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر . والأعلى خبز ولحم . وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف لا سيما مع قوله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم } فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك ; ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولا واحدا ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه : هذا مع أن هذه واجبة بالشرط فكيف يقدر طعاما واجبا بالشرع ؟ بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه ولا الخراج ; ولا يقدر أيضا الأطعمة الواجبة مطلقا سواء وجبت بشرع أو شرط ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقا . فطعام الكفارة أولى أن لا يقدر . [ ص: 351 ]

                و " الأقسام ثلاثة " فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما . وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف ; ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك كما أن قياس مذهبه أن مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر وقد دل على ذلك كلامه أيضا كما قد بين في موضع آخر ; وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك بالصاع كالتمر والشعير . وقد تنازع العلماء في " الأدم " هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين . والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم . وإن كان إنما يطعم بلا أدم لم يكن له أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله . وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة وإذا صنع خبزا جاء نحو رطلين بالعراقي وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية فإن جعل بعضه أدما كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار ; فلهذا قال جمهور العلماء : يطعم في غير المدينة أكثر من هذا : إما مدان أو مد ونصف على قدر طعامهم فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي وإما ثلثا رطل وإما رطل وإما أكثر . إما مع الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت ; فإن عادة الناس تختلف بالرخص [ ص: 352 ] والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف وغير ذلك . وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزا كان رطلا وثلثا بالدمشقي ; فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال .

                وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعا ثمانية أرطال وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات . والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبو حنيفة وفي بلد ما أوجبه أحمد وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته ; عملا بقوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } . وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا وأدما من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم وهو أظهر القولين في الدليل فإن الله تعالى أمر بإطعام ; لم يوجب التمليك وهذا إطعام حقيقة . ومن أوجب " التمليك " احتج بحجتين " إحداهما " أن الطعام الواجب مقدر بالشرع ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه . و " الثانية " أنه بالتمليك يتمكن من التصرف الذي لا يمكنه مع الإطعام . وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع ; وإن قدر أنه مقدر به فالكلام [ ص: 353 ] إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر . وأما التصرف بما شاء فالله تعالى لم يوجب ذلك إنما أوجب فيها التمليك لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } ولهذا حيث ذكر الله التصرف بحرف الظرف كقوله : { وفي الرقاب } { وفي سبيل الله } فالصحيح أنه لا يجب التمليك ; بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن ذلك تمليكا للمعتق ويجوز أن يشتري منها سلاحا يعين به في سبيل الله وغير ذلك ولهذا قال من قال من العلماء الإطعام أولى من التمليك ; لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله ; بل قد يكنزه فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعا .

                وغاية ما يقال : أن التمليك قد يسمى إطعاما كما يقال ; { أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس } وفي الحديث : { ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده } لكن يقال : لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم فيقال : أطعمه كذا . فأما إذا أطلق وقيل : أطعم هؤلاء المساكين . فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمي التمليك للطعام إطعاما ; لأن المقصود هو الإطعام . أما إذا كان المقصود مصرفا غير الأكل فهذا لا يسمى إطعاما عند الإطلاق .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية