الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ الفرق بين التدليس والإرسال ] وكذا قال الحافظ أبو الحسن بن القطان في بيان الوهم والإيهام له .

قال : " والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه ، ولما كان في هذا أنه قد سمع ، كانت روايته عنه بما لم يسمع منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشيء ; فلذلك سمي تدليسا " . وارتضاه شيخنا لتضمنه الفرق بين النوعين .

وخالف شيخه في ارتضائه هنا من شرحه حد ابن الصلاح ، وفي قوله في التقييد : إنه هو المشهور بين أهل الحديث ، وقال : إن كلام الخطيب في كفايته يؤيد ما قاله ابن القطان .

قلت : وعبارته فيها : " هو تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه أنه سمعه منه ، ويعدل عن البيان لذلك " .

قال : " ولو بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه وكشف ذلك ، لصار ببيانه مرسلا للحديث غير مدلس فيه ; لأن الإرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعا ممن لم يسمع منه ، وملاقيا لمن لم يلقه ، إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن الإرسال لا محالة ; لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة " .

" وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط ، وهو الموهن لأمره ، فوجب كون التدليس متضمنا للإرسال ، والإرسال لا يتضمن التدليس ; لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه ، ولهذا لم يذم العلماء من أرسل [ ص: 224 ] - يعني لظهور السقط - وذموا من دلس " .

وأصرح منه قول ابن عبد البر في التمهيد : " التدليس عند جماعتهم اتفاقا هو أن يروي عمن لقيه وسمع منه وحدث عنه مما لم يسمعه منه ، وإنما سمعه من غيره عنه ممن ترضى حاله أو لا ترضى ، على أن الأغلب في ذلك أنه لو كانت حاله مرضية لذكره ، وقد يكون لأنه استصغره " .

قال : " وأما حديث الرجل عمن لم يلقه - كمالك عن سعيد بن المسيب ، والثوري عن إبراهيم النخعي - فاختلفوا فيه : فقالت فرقة : إنه تدليس ; لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما ، كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما ، قالوا : وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علة به دلسة .

وقالت طائفة من أهل الحديث : إنما هو إرسال ، قالوا : فكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أبي بكر وعمر وهو لم يسمع منهما ، ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسا ، كذلك مالك عن سعيد ، قال : ولئن كان هذا تدليسا ، فما أعلم أحدا من العلماء قديما ولا حديثا سلم منه إلا شعبة والقطان ; فإنهما ليسا يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة " . انتهى .

وكلامه بالنظر لما اعتمده يشير أيضا إلى الفرق بين التدليس والإرسال الخفي والجلي ; لإدراك مالك لسعيد في الجملة ، وعدم إدراك الثوري للنخعي أصلا ، ولكنه لم يتعرض لتخصيصه بالثقة ، فتخصيصه بها في موضع آخر من تمهيده اقتصار على الجائز منه ; لأنه قد صرح في مكان آخر منه بذمه في غير الثقة .

فقال : " ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة ، فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث . وكذلك إن حدث عمن لم يسمع منه ، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه " .

[ ص: 225 ] وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه ، وهو مع قوله في موضع آخر : " إنه إذا وقع فيمن لم يلقه أقبح وأسمج " - يقتضي أن الإرسال أشد ، بخلاف قوله الأول ، فهو مشعر بأنه أخف ، فكأنه هنا عنى الخفي لما فيه من إيهام اللقي والسماع معا ، وهناك عنى الجلي لعدم الالتباس فيه .

لا سيما وقد ذكر أيضا أن الإرسال قد يبعث عليه أمور لا تضيره ، كأن يكون سمع الخبر من جماعة عن المرسل عنه ; بحيث صح عنده ووقر في نفسه ، أو نسي شيخه فيه مع علمه به عن المرسل عنه ، أو كأن أخذه له مذاكرة ، فينتقل الإسناد لذلك دون الإرسال ، أو لمعرفة المتخاطبين بذلك الحديث واشتهاره بينهم أو لغير ذلك مما هو في معناه ، والظاهر أن هذا في الجلي .

إذا علم هذا ، فقد أدرج الخطيب ثم النووي في هذا القسم تدليس التسوية كما سيأتي ، ووصف غير واحد بالتدليس من روى عمن رآه ولم يجالسه ، بالصيغة الموهمة ، بل وصف به من صرح بالإخبار في الإجازة كأبي نعيم ، أو بالتحديث في الوجادة كإسحاق بن راشد الجزري ، وكذا فيما لم يسمعه كفطر بن خليفة أحد من روى له البخاري مقرونا .

ولذا قال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد القطان : يعتمد على قول فطر ثنا ، ويكون موصولا ؟ فقال : لا ، فقلت : أكان ذلك منه سجية ؟ قال : نعم .

وكذا قال الفلاس : إن القطان [ ص: 226 ] قال له : وما ينتفع بقول فطر " ثنا " عطاء ، ولم يسمع منه . وقال ابن عمار عن القطان : كان فطر صاحب ذي سمعت سمعت ، يعني أنه يدلس فيما عداها ، ولعله تجوز في صيغة الجمع فأوهم دخوله .

كقول الحسن البصري : " خطبنا ابن عباس " و " خطبنا عتبة بن غزوان " وأراد أهل البصرة بلده ، فإنه لم يكن بها حين خطبتهما ، ونحوه في قوله : " حدثنا أبو هريرة " وقول طاوس : " قدم علينا معاذ اليمن " .

وأراد أهل بلده ، فإنه لم يدركه ، كما سيأتي الإشارة لذلك في أول أقسام التحمل ، ولكن صنيع فطر فيه غباوة شديدة يستلزم تدليسا صعبا ، كما قال شيخنا ، وسبقه عثمان بن خرذاذ ، فإنه لما قال لعثمان بن أبي شيبة : إن أبا هشام الرفاعي يسرق حديث غيره ويرويه ، وقال له ابن أبي شيبة : أعلى وجه التدليس أو على وجه الكذب ؟ قال : كيف يكون تدليسا وهو يقول : ثنا ؟ ! وكذا من أسقط أداة الرواية أصلا مقتصرا على اسم شيخه ، ويفعله أهل الحديث كثيرا ، ومن أمثلته - وعليه اقتصر ابن الصلاح في التمثيل لتدليس الإسناد - ما قال علي بن خشرم : كنا عند ابن عيينة فقال : الزهري ، فقيل له : حدثك الزهري ؟ فسكت ، ثم قال : الزهري ، فقيل له : أسمعته من الزهري ؟ فقال : لا ، لم أسمعه من الزهري ، ولا ممن سمعه من الزهري ، حدثني عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، [ ص: 227 ] أخرجه الحاكم .

ونحوه أن رجلا قال لعبد الله بن عطاء الطائفي : حدثنا بحديث : من توضأ فأحسن الوضوء ، دخل من أي أبواب الجنة شاء فقال : عقبة ، فقيل : سمعته منه ؟ قال : لا ، حدثني سعد بن إبراهيم ، فقيل : لسعد ، فقال : حدثني زياد بن مخراق ، فقيل : لزياد ، فقال : حدثني رجل عن شهر بن حوشب ، يعني عن عقبة .

وسماه شيخنا في تصنيفه في المدلسين تدليس القطع ، ولكنه قد مثل له في نكته على ابن الصلاح بما في الكامل لابن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : ثنا ثم يسكت وينوي القطع ، ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وحينئذ فهو نوعان ، ونحوه تدليس العطف ، وهو أن يصرح بالتحديث في شيخ له ، ويعطف عليه شيخا آخر له ، ولا يكون سمع ذلك المروي منه ، سواء اشتركا في الرواية عن شيخ واحد - كما قيده به شيخنا لأجل المثال الذي وقع له وهو أخف - أم لا .

فروى الحاكم في علومه قال : اجتمع أصحاب هشيم ، فقالوا : لا نكتب عنه اليوم شيئا مما يدلسه ، ففطن لذلك ، فلما جلس قال : ثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، وساق عدة أحاديث ، فلما فرغ قال [ ص: 228 ] : هل دلست لكم شيئا ؟ قالوا : لا ، فقال : بلى ، كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي ، ولم أسمع عن مغيرة شيئا .

وهذا محمول على أنه نوى القطع . ثم قال : وفلان ، أي : وحدث فلان ، [ وقريب منه - وسماه ابن دقيق العيد خفي التدليس - قول أبي إسحاق السبيعي : ليس أبو عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - ذكره - يعني : لي عن أبيه - ولكن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عن أبيه عن ابن مسعود ، كأنه لما فيه من إيهام سماع أبي عبيدة له من أبيه ، لا سيما مع إدراكه له مع أن الصحيح عدم سماعه منه ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية