الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 433 ] ولما كان هذا؛ تسبب عنه قوله: فلا تتبعوا ؛ أي: تتكلفوا تبع الهوى ؛ وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له؛ أن ؛ أي: إرادة أن تعدلوا ؛ فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: "فإن تتبعوه لذلك؛ أو لغيره؛ فإن الله كان عليكم قديرا"؛ عطف عليه قوله: وإن تلووا ؛ أي: ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعا من التحريف؛ أو تديروا ألسنتكم؛ أي: تنطقوا بالشهادة باطلا؛ وقرأ ابن عامر؛ وحمزة؛ بضم اللام؛ من "الولاية"؛ أي: تؤدوا الشهادة على وجه من العدل؛ أو "اللي"؛ أو تعرضوا ؛ أي: عنها؛ وهي حق؛ فلا تؤدوها لأمر ما؛ فإن الله ؛ أي: المحيط علما؛ وقدرة؛ كان ؛ أي: لم يزل؛ ولا يزال؛ بما تعملون خبيرا ؛ أي: بالغ العلم؛ باطنا وظاهرا؛ فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه؛ فاحذروه إن خنتم؛ وارجوه إن وفيتم؛ وذلك بعد ما مضى من تأديبهم؛ على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر؛ وما أنسبها لختام التي قبلها؛ وأشد التئام الختامين؛ ختام هذه بصفة الخبر؛ وتلك بصفتي السمع؛ والبصر. [ ص: 434 ] ولما أمر بالعدل على هذا الوجه؛ أمر بالحامل على ذلك؛ وهو الإيمان بالشارع؛ والمبلغ؛ والكتاب الناهج لشرائعه؛ المبين لسرائره؛ الذي افتتح القصة بحقيته؛ وبيان فائدته؛ فقال: يا أيها الذين آمنوا ؛ أي: أقروا بالإيمان; ولما ناداهم بوصف الإيمان؛ أمرهم بما لا يحصل إلا به؛ فقال - مفصلا له -: آمنوا بالله ؛ أي: لأنه أهل لذلك لذاته؛ المستجمع لجميع صفات الكمال كلها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط؛ وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول؛ قال: ورسوله ؛ أي: لأنه المبلغ عنه؛ سواء كان من الملك؛ أو البشر؛ والكتاب الذي نـزل ؛ أي: مفرقا بحسب المصالح تدريجا؛ تثبيتا وتفهيما؛ على رسوله ؛ أي: لأنه المفصل لشريعتكم؛ المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام؛ والمواعظ؛ وجميع ما يصلحكم؛ وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق؛ والكتاب الذي أنـزل ؛ أي: أوجد إنزاله ومضى; ولما لم يكن إنزاله مستغرقا للزمان الماضي؛ بين المراد بقوله: من قبل ؛ من الإنجيل؛ والزبور؛ [ ص: 435 ] والتوراة؛ وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك؛ فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالما بأن التنزيل؛ والإنزال؛ لا يكون إلا من الله؛ بنيا للمفعول في قراءة ابن كثير؛ وأبي عمرو وابن عامر؛ للعلم بالفاعل؛ وصرحت قراءة الباقين به.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: "فمن آمن بذلك فقد اهتدى؛ وآمن قطعا بالملائكة؛ واليوم الآخر؛ وغير ذلك؛ من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول"؛ عطف عليه قوله: ومن يكفر ؛ أي: يوجد الكفر؛ ويجدده وقتا من الأوقات؛ بالله وملائكته وكتبه ؛ أي: التي أنزلها على أنبيائه؛ بواسطة ملائكته؛ أو بغير واسطة؛ ورسله ؛ أي: من الملائكة؛ والبشر؛ فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه؛ وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإيمان بالبعث - وإن كان أظهر شيء - مما لا تستقل به العقول؛ فلا تصل إليه إلا بالرسل؛ ذكره بعدهم؛ فقال: واليوم الآخر ؛ أي: الذي أخبرت به رسله؛ وقضت به العقول الصحيحة؛ وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه؛ وهو روح الوجود؛ وسره؛ وقوامه؛ وعماده؛ فيه تكشف الحقائق؛ وتجمع الخلائق؛ [ ص: 436 ] ويظهر شمول العلم؛ وتمام القدرة؛ ويبسط ظل العدل؛ وتجتنى ثمرات الفضل؛ فقد ضل ؛ وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين؛ فقال: ضلالا بعيدا ؛ أي: لا حيلة في رجوعه معه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية