الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب الوصية للأقارب وغيرهم )

قال ( ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون عند أبي حنيفة ، وقالا : هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي ويجمعهم مسجد المحلة ) وهذا استحسان . وقوله قياس لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة [ ص: 475 ] ولهذا يستحق الشفعة بهذا الجوار ، ولأنه لما صرفه إلى الجميع يصرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق . وجه الاستحسان أن هؤلاء كلهم يسمون جيرانا عرفا ، وقد تأيد بقوله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد } وفسره بكل من سمع النداء ، ولأن المقصد بر الجيران واستحبابه ينتظم الملاصق وغيره ، إلا أنه لا بد من الاختلاط وذلك عند اتحاد المسجد ، وما قاله الشافعي رحمه الله : الجوار إلى أربعين دارا بعيد ، وما يروى فيه ضعيف . قالوا : ويستوي فيه الساكن والمالك والذكر والأنثى والمسلم الذمي لأن اسم الجار يتناولهم [ ص: 476 ] ويدخل فيه العبد الساكن عنده لإطلاقه ، ولا يدخل عندهما لأن الوصية له وصية لمولاه وهو غير ساكن . .

التالي السابق


( باب الوصية للأقارب وغيرهم )

أخر هذا الباب عما تقدمه لأنه ذكر في هذا الباب أحكام الوصية لقوم مخصوصين ، وذكر فيما تقدمه أحكام الوصايا على وجه العموم ، والخصوص أبدا يتلو العموم ، كذا في الشروح .

( قوله ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون ) قال صاحب العناية : [ ص: 475 ] كان حق الكلام أن يقدر وصية الأقارب نظرا إلى ترجمة الباب ، ويجوز أن يقال : الواو لا يدل على الترتيب ، وأن يقال : فعل ذلك اهتماما بأمر الجار ا هـ كلامه . أقول : كل واحد من توجيهه كاسد . أما الأول فلأن الواو إنما لا يدل على الترتيب الخارجي : أي لا يدل على وقوع مدخوله في الخارج بعد وقوع المعطوف عليه فيه ، وأما ما تأخر مدخوله في الذكر عن المعطوف عليه فأمر ضروري ، ولا يخفى أن مدار قوله كان حق الكلام أن يقدم وصية الأقارب نظرا إلى ترجمة الباب على الثاني : يعني لما قدم ذكر الوصية للأقارب في ترجمة الباب كان حق الكلام أن يقدم ذلك في بسط المسائل أيضا ليحصل التناسب بين الإجمال والتفصيل ، وعدم دلالة الواو على الترتيب في الوقوع الخارجي لا يدفع ذلك بلا ريب . وأما الثاني فلأن الاهتمام بأمر الجار لو كان واجبا أو مستحسنا لفعل ذلك في ترجمة الباب بأن قال باب الوصية للجيران وغيرهم ، ولما لم يفعله هناك علم أن اهتمامه كان بأمر الأقارب ، فكان حق الكلام هنا أن يساق على منواله رعاية للتناسب .

( قوله ولأنه لما تعذر صرفه إلى الجميع يصرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق إلخ ) أوضحه في الكافي حيث قال : ولأنه لما تعذر صرفه إلى الجميع ; ألا يرى أنه لا يدخل فيه جار المحلة وجار الأرض وجار القرية صرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق ا هـ . وعن هذا قال في العناية في شرح قول المصنف لما تعذر صرفه إلى الجميع : يعني لعدم دخول جار المحلة وجار القرية وجار الأرض . أقول : لقائل أن يقول : عدم دخول جار المحلة وجار القرية وجار الأرض في الوصية لجيران الموصي لعدم انطلاق لفظ الجيران المضاف إلى الموصي نفسه على شيء من ذلك لا حقيقة ولا عرفا بخلاف من يسكن محلة الموصي ويجمعهم مسجد محلته فإن هؤلاء كلهم يسمون جيران الموصي عرفا كما سيأتي في وجه الاستحسان ، فلا يلزم من تعذر صرفه إلى الجميع تعذر صرفه إلى أهل مسجد محلته كما قاله الإمامان حتى يتعين صرفه إلى أخص الخصوص كما قاله أبو حنيفة فتأمل .

( قوله ولأن المقصد بر الجيران فاستحبابه ينتظم الملاصق وغيره ) أقول : ولقائل أن يقول : نعم إن مقصود الموصي من إيصائه لجيرانه بر الجيران لكن الجيران هم الملاصقون لا غير لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة فكيف ينتظم الملاصق وغيره ، وإن صير إلى كون غير الملاصق أيضا من أهل المحلة جيرانا عرفا يلزم المصير إلى الدليل الأول ، فلا يكون لجعل هذا التعليل دليلا ثانيا كما هو مقتضى التحرير وجه كما لا يخفى .

( قوله قالوا ويستوي فيه الساكن والمالك والذكر والأنثى والمسلم والذمي لأن اسم الجار يتناولهم ) أقول : التعميم المستفاد من قولهم ويستوي فيه الساكن والمالك ينافي تقييد المصنف [ ص: 476 ] فيما مر بقوله ممن يسكن محلة الموصي ، إلا أن يكون ما نقله هاهنا عن المشايخ رواية أخرى ، لكن أسلوب تحريره يأبى ذلك كما لا يخفى على الفطن . وقال بعض المتأخرين : المفهوم من قول المصنف ممن يسكن محلة الموصي إلخ اشتراك السكنى في استحقاقهم الوصية عندهما ملاكا أو غيرهم . ومما نقله عن المشايخ عدم اشتراط السكنى عندهما إن كانوا ملاكا بدليل تخصيص خلافهما بالعبد الساكن فتأمل ا هـ كلامه . أقول : ليس هذا بتام لأن تخصيص خلافهما بالعبد الساكن إنما يكون دليلا على عدم الخلاف في الحر الساكن ، لا على عدم الخلاف في الحر الغير الساكن إذا كانوا ملاكا حتى يفهم منه عدم اشتراط السكنى عندهما إن كانوا ملاكا ، ثم إن تعليل قولهما في العبد الساكن بقوله لأن الوصية له وصية لمولاه وهو غير ساكن بمنزلة الصريح في اشتراط السكنى عندهما في استحقاقهما الوصية وإن كانوا أحرارا وملاكا فإنه قال وهو غير ساكن ولم يقل وهو غير مالك للدار ، فدل قطعا على أن عدم دخول العبد الساكن عندهما لعدم تحقق سكنى مولاه الذي هو الموصى له في الحقيقة ، وهذا إنما يتم باشتراط السكنى عندهما في استحقاقهم الوصية فلا معنى لاستنباط عدم اشتراط السكنى عندهما إن كانوا ملاكا من الخلافية المذكورة كما فعله ذلك البعض .

( قوله لأن الوصية له وصية لمولاه وهو غير ساكن ) قال بعض المتأخرين : ولقائل أن يقول : لعله أراد بدخوله كون نفسه موصى له ومستحقا للوصية فيحمل على أنه لو أعتق قبل موت الموصي صار مستحقا له ، ولا يضره كونه عبدا وقت الوصية ، إذ العبرة لوقت الموت فالخلاف بينهما غير حقيقي ، وأيضا الوصية بدءا للعبد ثم لمولاه لأن العبد وما يملكه لمولاه فسكناه كاف في استحقاقه الوصية فتأمل إلى هنا كلامه . أقول : كل من شقي كلامه غير صحيح . أما الأول منهما فلأن العبرة إذا كانت لوقت الموت دون وقت إيجاب الوصية كان الخلاف المذكور بينهما فيمن كان عبدا وقت الموت وكان الخلاف في ذلك حقيقيا لا محالة . وأما الذي كان عبدا وقت الإيجاب ثم أعتق قبل الموت فصار حرا وقت الموت فخارج عن محل الخلاف المذكور قطعا ، لأنه لما صار حرا في الوقت الذي له العبرة في أحكام الوصية عامة وهو وقت موت الموصي صار من قبيل سائر الأحرار بلا تفاوت ، فلا يصلح أن يكون محل الخلاف فيما نحن فيه بلا ريب فكيف يحمل الكلام عليه . وأما الثاني فلأنه لا شك أن ليس معنى الوصية للعبد أن يملك شيء للعبد تمليكا مضافا إلى الموت فيملكه العبد ابتداء عند الموت ثم ينتقل الملك من ذلك العبد إلى مولاه ثانيا ، بل معناها تمليك شيء لمولى العبد كما هو الحال في سائر التمليكات للعبد على ما صرحوا به ، وإلا يلزم أن يكون العبد أهلا للملك لنفسه ابتداء ولم يقل به أحد ، فإذن كانت الوصية للعبد وصية لمولاه وكان التمليك تمليكا لمولاه ، فلا معنى لقول ذلك البعض فسكناه كاف في استحقاقه الوصية تأمل ترشد




الخدمات العلمية