الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 239 ] ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى قال أحمد بن المقدام العجلي : حدثنا هشام بن محمد الكلبي ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير ، عن أبيه ، قال : سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس :


                                                                                      فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالف

                                                                                      فلما أصبحوا قال أبو سفيان : من السعدان ؟ سعد بن بكر ، سعد تميم ؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول :


                                                                                      أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا     ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
                                                                                      أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا     على الله في الفردوس منية عارف
                                                                                      فإن ثواب الله للطالب الهدى     جنان من الفردوس ذات رفارف

                                                                                      فقال أبو سفيان : هو والله سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة .

                                                                                      وقال البكائي ، عن ابن إسحاق : لما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه الأنصار ، فعرض نفسه على القبائل ، كما كان يصنع ، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقيهم قال : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج . قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم . قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى . فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم [ ص: 240 ] الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك وأوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا : إن نبيا مبعوث الآن ، قد أظل زمانه ، نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله ، قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا والله للنبي الذي تواعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه . فأجابوه وأسلموا ، وقالوا : إنا تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك به ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وهم فيما ذكر ستة من الخزرج : أسعد بن زرارة ، وعوف ابن عفراء ، ورافع بن مالك الزرقي ، وقطبة بن عامر السلمي ، وعقبة بن عامر . رواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق ، فقال بدل عقبة : معوذ ابن عفراء ، وجابر بن عبد الله أحد بني عدي بن غنم . فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، وفشا فيهم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا ، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة ، وهي ( العقبة الأولى ) ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب ، وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ، ومعوذ ابنا الحارق وهما ابنا عفراء ، وذكوان بن عبد قيس ، ورافع بن مالك ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة البلوي ، وعباس بن عبادة بن نضلة ، وقطبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ، وهم من الخزرج ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعويم بن ساعدة ، وهما من الأوس .

                                                                                      [ ص: 241 ] وقال يونس وجماعة ، عن ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن أبي عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة ، قال : حدثني عبادة بن الصامت ، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ، ونحن اثنا عشر رجلا ، فبايعناه بيعة النساء ، على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، وذلك قبل أن تفترض الحرب ، فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئا فأمركم إلى الله ، إن شاء غفر ، وإن شاء عذب .

                                                                                      أخرجاه عن قتيبة ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب . أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن ، وإسماعيل بن أبي عمرو ، قالا : أخبرنا الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن بن البن ، قال : أخبرنا جدي أبو القاسم الحسين ، قال : أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن أبي العلاء سنة تسع وسبعين وأربعمائة ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان المعدل ، قال : أخبرنا علي بن يعقوب ، قال : أخبرنا أحمد بن إبراهيم القرشي ، قال : أخبرنا محمد بن عائذ ، قال : أخبرني إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة ، عن عبادة بن الصامت ، قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله عز وجل ، لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع أنفسنا وأزواجنا ، ولنا الجنة . رواه زهير بن معاوية ، عن ابن خثيم ، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة ، عن أبيه ، أن عبادة قال نحوه .

                                                                                      [ ص: 242 ] خالفه داود بن عبد الرحمن العطار ويحيى بن سليم ، فرويا عن ابن خثيم هذا المتن بإسناد آخر ، وهو عن أبي الزبير عن جابر . وسيأتي .

                                                                                      وقال البكائي ، عن ابن إسحاق : فلما انصرف القوم ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير العبدري يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ، فنزل على أسعد بن زرارة ، فحدثني عاصم بن عمر أنه كان يصلي بهم ، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض .

                                                                                      قال ابن إسحاق : وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ .

                                                                                      وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة ، فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة ، واستغفر ، فقلت : يا أبه ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة ! قال : أي بني ، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات . قلت : وكم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلا .

                                                                                      وقال موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، قال : فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار ، منهم معاذ ابن عفراء ، وأسعد بن زرارة ، ورافع بن مالك ، وذكوان ، وعبادة بن الصامت ، وأبو عبد الرحمن بن تغلب ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وعويم بن ساعدة ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم خبره ، وقرأ عليهم القرآن ، فأيقنوا به واطمأنوا ، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب ، فصدقوه ، ثم قالوا : قد علمت الذي كان بين الأوس والخزرج من سفك الدماء ، ونحن حراص على ما أرشدك الله [ ص: 243 ] به ، مجتهدون لك بالنصيحة ، وإنا نشير عليك برأينا ، فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك ، وندعوهم إلى الله ، فلعل الله يصلح ذات بينهم ، ويجمع لهم أمرهم فنواعدك الموسم من قابل . فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجعوا إلى قومهم فدعوهم سرا وتلوا عليهم القرآن ، حتى قل دار من دور الأنصار إلا قد أسلم فيها ناس ، ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ ابن عفراء ، ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا . فبعث مصعب بن عمير ، فنزل في بني تميم على أسعد يدعو الناس سرا ، ويفشو فيهم الإسلام ويكثر ، ثم أقبل مصعب وأسعد ، فجلسا عند بئر بني مرق ، وبعثا إلى رهط من الأنصار ، فأتوهما مستخفين ، فأخبر بذلك سعد بن معاذ ويقول بعض الناس : بل أسيد بن حضير فأتاهم في لأمته معه الرمح ، حتى وقف عليهم ، فقال لأبي أمامة أسعد : علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد ، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه ، لا أراك بعدها تسيء من جوارنا . فقاموا ، ثم إنهم عادوا مرة أخرى لبئر بني مرق ، أو قريبا منها ، فذكروا لسعد بن معاذ الثانية فجاءهم ، فتواعدهم وعيدا دون وعيده الأول ، فقال له أسعد : يا ابن خالة ، اسمع من قوله ، فإن سمعت حقا فأجب إليه ، وإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه ، فقال : ماذا يقول ؟ فقرأ عليه مصعب : ( حم ( 1 ) ) ( والكتاب المبين ( 2 ) ) ( إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون ( 3 ) ) [ الزخرف ] فقال سعد : ما أسمع إلا ما أعرفه . فرجع سعد وقد هداه الله ، ولم يظهر لهما إسلامه ، حتى رجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام ، وأظهر لهم إسلامه وقال : من شك منكم فيه فليأت بأهدى منه ، فوالله لقد جاء أمر لتحزن منه الرقاب . فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد بن معاذ ، إلا من لا يذكر .

                                                                                      ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير ، واشتدوا على أسعد ، [ ص: 244 ] فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ يدعو آمنا ويهدي الله به . وأسلم عمرو بن الجموح ، وكسرت أصنامهم ، وكان المسلمون أعز من بالمدينة ، وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا قال ابن شهاب : إن مصعبا أول من جمع بالمدينة .

                                                                                      وقال البكائي ، عن ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقيب ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير ، يريد به دار بني عبد الأشهل ، ودار بني ظفر ، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة ، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر ، وقالا : على بئر مرق ، فاجتمع إليهما ناس ، وكان سعد وأسيد بن حضير سيدي بني عبد الأشهل ، فلما سمعا به قال سعد لأسيد ، انطلق إلى هذين فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا ، فلولا أسعد بن زرارة ابن خالتي كفيتك ذلك . فأخذ أسيد حربته ، ثم أقبل إليهما ، فلما رآه أسعد قال : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه . قال مصعب : إن يجلس أكلمه . قال : فوقف عليهما ، فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة . فقال له مصعب . أوتجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكره . قال : أنصفت . ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا فيما بلغنا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام ، قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل وتطهر وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ، فقام فاغتسل وأسلم وركع ركعتين ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه من [ ص: 245 ] قومه أحد ، وسأرسله إليكما . ثم انصرف إلى سعد بن معاذ وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ، فلما رآه سعد مقبلا قال : أقسم بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ولى به ، ثم قال له : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين ، فما رأيت بهما بأسا ، وقد تهيبتهما فقالا : لا نفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك . فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا ، فأخذ الحربة ، وقال : والله ما أراك أغنيت عنا شيئا . ثم خرج إليهما ، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متبسما . ثم قال لأسعد : يا أبا أمامة ، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا ، أتغشانا في دارينا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب : أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان . فقال : أوتقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره . قال : أنصفت . فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فعرفنا في وجهه ، والله ، الإسلام قبل أن يتكلم به ، لإشراقه وتسهله . ثم فعل كما عمل أسيد ، وأسلم ، وأخذ حربته ، وأقبل عامدا إلى نادي قومه ، ومعه أسيد ، فلما رآه قومه ، قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فقال : يا بني عبد الأشهل كيف تعرفون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة . قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا . فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة ، ورجع مصعب وأسعد إلى منزلهما ، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ، وواقف ، وتلك أوس الله وهم من الأوس بن [ ص: 246 ] حارثة ، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت ، وهو صيفي ، وكان شاعرا لهم وقائدا ، يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام ، فلم يزل على ذلك حتى مضت أحد والخندق .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية