الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
. [ ص: 492 ] ( باب وصية الذمي )

قال ( وإذا صنع يهودي أو نصراني بيعة أو كنيسة في صحته ثم مات فهو ميراث ) لأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة ، والوقف عنده يورث ولا يلزم فكذا هذا . وأما عندهما فلأن هذه معصية فلا تصح عندهما . قال ( ولو أوصى بذلك لقوم مسمين فهو الثلث ) معناه إذا أوصى أن تبنى داره بيعة أو كنيسة فهو جائز من الثلث [ ص: 493 ] لأن الوصية فيها معنى الاستخلاف ومعنى التمليك ، وله ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين .

التالي السابق


( باب وصية الذمي )

ذكر وصية الذمي بعد وصية المسلم لأن الكفار ملحقون بالمسلمين في أحكام المعاملات بطريق التبعية ، فذكر التابع بعد المتبوع كذا قالوا . أقول : أكثر ما ذكر في هذا الباب ليس من قبيل المعاملات كما ترى ، فتغليب الأقل على الأكثر غير معقول ، والأظهر أن يقال : لما كان لبعض وصايا الكفار أحكام خاصة ذكر وصيتهم في باب على حدة وأخره لخساستهم .

( قوله وإذا صنع يهودي أو نصراني بيعة أو كنيسة في صحته ثم مات فهو ميراث ، لأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ، والوقف عنده يورث ولا يلزم فكذا هذا . وأما عندهما فلأن هذه معصية فلا تصح عندهما ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : إذا صنع يهودي بيعة أو نصراني كنيسة في حصته ثم مات فهو ميراث بالاتفاق فيما بين أصحابنا على اختلاف التخريج ، أما عنده فلأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان لمسلم ، فإن وقف المسلم في حال الحياة موروث بعد موته لكونه غير لازم فهذا أولى ، وأما عندهما فلأن هذه الوصية معصية فلا تصح ، إلى هنا لفظه . أقول : فيه خلل من وجوه : الأول أنه صرف البيعة إلى اليهودي والكنيسة إلى النصراني ، وهو مخالف لما ذكره نفسه وسائر الشراح في كتاب الجهاد من أن الكنيسة اسم لمعبد اليهود والنصارى وكذلك البيعة اسم لمعبدهم مطلقا في الأصل ، ثم غلب استعمال الكنيسة لمعبد اليهود والبيعة [ ص: 493 ] لمعبد النصارى .

وعبارة الكتاب هنا تحتمل صرف البيعة إلى النصارى والكنيسة إلى اليهود بطريق اللف والنشر الغير المرتب . والثاني أنه قال : أما عنده وقال بعده فلأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ، وأضمر أبا حنيفة أولا وأظهره ثانيا ، وكان الأول مقام الإظهار والثاني مقام الإضمار ، بخلاف عبارة المصنف فإنها على الأصل السديد حيث قال : لأنها بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ، والوقف عنده يورث فأظهر أبا حنيفة أولا وأضمره ثانيا . والثالث أنه خص كون الوقف موروثا عنده بالمسلم حيث قال : فإن وقف المسلم في حال الحياة موروث وبعد موته مع أن وقف الكافر أيضا موروث عنده بلا تفاوت ، بخلاف عبارة المصنف فإنها مطلقة حيث قال : والوقف عنده موروث بلا تخصيص بالمسلم . والرابع أنه قال : فلأن هذه الوصية معصية مع أنه لا وصية في مسألتنا هذه ، فإن المذكور فيها صنع اليهودي أو النصراني في حال حياته بدون إضافة شيء إلى ما بعد موته ، والوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت ، بخلاف قول المصنف فإن هذه معصية ، إذ المشار إليه بهذه في قوله المذكور هي الصنيعة دون الوصية فلا غبار عليه .

( قوله لأن الوصية فيها معنى الاستخلاف ومعنى التمليك ، وله ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين ) قال في العناية وغاية البيان : وإذا صار ملكا للمسلمين صنعوا ما شاءوا ا هـ . أقول : هذا على أصلهما ظاهر ، فإن الوصية بالمعصية باطلة عندهما وإن كانت في معتقدهم قربة كما سيجيء ، فإذا بطلت حقيقة الوصية عندهما فيما نحن فيه لكون بناء البيعة والكنيسة معصية حقيقة وإن كان قربة في معتقد الكفار لزمهما المصير إلى ما في الوصية من معنى الاستخلاف والتمليك تصحيحا لكلام العاقل مهما أمكن . وأما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فغير ظاهر ، لأن كون الموصى به قربة في معتقد الموصي كاف عنده في صحة الوصية كما سيجيء أيضا وفيما نحن فيه كذلك فينبغي أن تصح حقيقة الوصية عنده هنا كما تصح فيما إذا أوصى بذلك لقوم غير مسمين ما سيأتي بدون المصير إلى اعتبار معنى الاستخلاف والتمليك في تصحيحها . والحاصل أن الظاهر أن يكون تخريج هذه المسألة على الاختلاف بين أبي حنيفة رحمه الله وصاحبيه وإن كان جوابها على الاتفاق بينهم كما في المسألة السابقة ، وأسلوب تحرير ما في الكتاب وشروحه يشعر باتفاقهم في التخريج أيضا فليتأمل




الخدمات العلمية