الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( باب دعوى الحائط والطريق )

( قال رحمه الله : وإذا كان الحائط بين دارين فادعاه صاحب كل واحد من الدارين فإن كان لأحدهما عليه جذوع ، وليس للآخر عليه جذوع فهو لصاحب الجذوع عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله لا يستحق بوضع الجذوع ترجيحا على صاحبه ) ; لأن وضع الجذوع محتمل قد يكون عن ملك ، وقد يكون عن استعارة ، وقد يكون عن غصب والمحتمل لا يكون حجة .

ولنا أن واضع الجذوع مستعمل للحائط بوضع حمله عليه ، والاستعمال يد وعند تعارض [ ص: 88 ] الدعوتين القول قول صاحب اليد كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل كان هو أولى بها ; ولأن الظاهر شاهد له ; ولأن وضعه الجذوع دليل على أنه بنى الحائط لحاجته إذ وضع حمله عليه ، ومثل هذه العلامة تثبت الترجيح كما إذا اختلف الزوجان في متاع البيت يجعل ما يصلح للرجل للرجل وما يصلح للنساء للمرأة ، وإن كان لأحدهما عليه هوادي أو بواري لا يستحق به شيئا ; لأن هذا ليس بجهل مقصود بني الحائط لأجله فلا يثبت به الترجيح كما لو تنازعا في دابة ; ولأحدهما عليه مخلاة علفها لا يستحق به الترجيح بخلاف الجذوع فإنه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله فيثبت له اليد باعتباره .

وكذلك إن كان لأحدهما عليه جذوع أو أنصال ; وللآخر بواري فهو لصاحب الجذوع والأنصال ، وإن كان لأحدهما عليه جذوع ; وللآخر أنصال فصاحب الجذع أولى ومراده من هذا مداخلة أنصاف اللبن بعضها في بعض إذا كان من أحد الجانبين هذا النوع من الاتصال ببناء أحدهما ; لأن وضع الجذوع استعمال للحائط والاتصال مجاورة واليد تثبت بالاستعمال دون المجاورة ، فكان صاحب الجذوع أولى . كما لو تنازعا في دابة ، وأحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى ، وذكر الطحطاوي رحمه الله أن صاحب الاتصال أولى ; لأن الكل صار في حكم حائط واحد فهذا النوع من الاتصال في بعضه متفق عليه لأحدهما فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه ; ولأن الظاهر أنه هو الذي بناه مع حائطه فمداخلة أنصاف للبن لا يتصور إلا عند بناء لحائطين معا فكان هو أولى .

قال في الكتاب : إلا أن يكون اتصال تربيع بيت أو دار فيكون لصاحب الاتصال حينئذ ، وكان الكرخي رحمه الله يقول صفة هذا الاتصال أن يكون هذا الحائط المتنازع من الجانبين جميعا متصلا بحائطين لأحدهما ، والحائطان متصلان بحائط له بمقابلة الحائط المتنازع حتى يصير مربعا شبه القبة فحينئذ يكون الكل في حكم شيء واحد فصاحب الاتصال أولى .

والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع بحائطين لأحدهما فأما اتصال الحائطين بحائط أخرى غير معتبر وعليه أكثر مشايخنا رحمهم الله .

لأن الترجيح إنما يقع له يكون ملكه محيطا بالحائط المتنازع من الجانبين ، وذلك يتم بالاتصال بجانبي الحائط المتنازع ; ولصاحب الجذوع موضع جذوعه ; لأن استحقاق صاحب الاتصال بالظاهر وهو حجة لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق على الغير فلا يستحق به على صاحب الجذوع رفع جذوعه .

فإن ( قيل ) : لما قضى بالحائط لصاحب الاتصال فينبغي أن يأمر الآخر برفع الجذع ; لأنه حمل موضوع [ ص: 89 ] له في ملك الغير بغير سبب ظاهر لاستحقاقه كما لو تنازعا في دابة لأحدهما عليها حمل ; وللآخر مخلاة يقضي لصاحب الحمل ، ويؤمر الآخر برفع المخلاة قلنا : لأن وضع المخلاة على دابة الغير لا يكون مستحقا له في الأصل بسبب فكان من ضرورة القضاء بالدابة لصاحب الحمل أمر الآخر برفع المخلاة فأما هنا فقد يثبت له حق وضع الجذوع على حائط لغيره بأن كان ذلك مشروطا في أصل القسمة فليس من ضرورة الحكم لصاحب الاتصال استحقاق رفع الجذوع على الآخر ، وهذا بخلاف ما لو أقام أحدهما البينة ، وقضى له به يؤمر الآخر برفع جذوعه ; لأن البينة حجة للاستحقاق فيستحق صاحبها رفع جذوعه عن ملكه ، وإن لم يكن متصلا ببناء أحدهما ، ولم يكن عليه جذوع فهو بينهما نصفان لاستوائهما فيه في اليد حكما فإنه بكونه بين داريهما يثبت لكل واحد منهما عليه اليد حكما ، وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات ; وللآخر عليه خشبة واحدة فلكل واحد منهما ما تحت خشبته ، ولا يكون بينهما نصفان استحسن ذلك في الخشبة والخشبتين ، وهكذا ذكر في كتاب الصلح .

وقال في كتاب الإقرار : الحائط كله لصاحب عشر خشبات إلا موضع الخشبة فإنه لصاحبها وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن الحائط بينهما نصفان ، وهو قول أبي يوسف رحمه الله وهو القياس ، ووجهه أن الاستعمال بموضع الخشب يثبت يد صاحبها عليه فصاحب القليل فيه يستوي بصاحب الكثير كما لو تنازعا في ثوب عامته في يد أحدهما فطرف منه في يد الآخر كان بينهما نصفين .

ووجه رواية كتاب الإقرار لصاحب العشر خشبات عليه حمل مقصود يبنى الحائط لأجله ; وليس لصاحب الخشبة الواحدة مثل ذلك ; ولأن الحائط لا يبنى لأجل خشبة واحدة عادة ، وإنما ينصب لأجلها أسطوانة فكان صاحب العشر خشبات أولى به كما في الدابة إذا كان لأحدهما عليها حمل مقصود ; وللآخر مخلاة يقضي بها لصاحب الحمل إلا أنه لا يرفع خشبة الآخر ; لأن استحقاق صاحب الخشبات باعتبار الظاهر يستحق به رفع الخشبة على الآخر .

وأما وجه رواية كتاب الدعوى أن الاستحقاق باعتبار وضع الخشبة فيثبت لكل واحد منهما الملك فيما تحت خشبته لوجود سبب الاستحقاق به في ذلك الموضع فأما ما بين الخشبات لم يذكر في الكتاب أنه يقضي به لأيهما ; لأن من أصحابنا رحمهم الله من قال يقضي بالكل بينهما على إحدى عشر سهما عشرة لصاحب الخشبات وسهم لصاحب الخشبة الواحدة اعتبار لما بين الخشبات بما هو تحت كل خشبة من الحائط ، وأكبرهم على أنه يقضي به لصاحب العشر [ ص: 90 ] خشبات ; لأن استحقاق الآخر بالخشبة لا بعلامة يستدل بها على أنه هو الذي بنى الحائط أو للآخر عليه علامة يستدل بها على أنه هو الذي بنى الحائط فإن الحائط يبنى لوضع عشر خشبات لا لوضع خشبة واحدة فلهذا كان الكل لصاحب الخشبات إلا موضع الخشبة الواحدة لضرورة استعمال صاحبها .

والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها ، وإن كان لأحدهما عليه عشر خشبات ; وللآخر ثلاث خشبات فصاعدا قضي به بينهما نصفان اعتبارا لأدنى الجمع بأقصاه ; وهذا لأن لكل واحد منهما عليه حملا مقصودا يبنى الحائط لأجله فلا يعتبر التفاوت بعد ذلك في القلة ، والكثرة كما لو تنازعا في دابة ; ولأحدهما عليه خمسون منا ; وللآخر مائة منا كانت بينهما نصفين ، وإن كان لأحدهما عليه خشب ; وللآخر عليه حائط سترة فالحائط الأسفل لصاحب الخشب لكونه مستعملا له بوضع حمل مقصود عليه ; ولصاحب السترة السترة على حالها ; لأن بالظاهر لا يستحق رفعه سترة الآخر بمنزلة سفل لأحدهما وعليه علو لآخر ، وإن كان لأحدهما عليه سترة ، وليس للآخر عليه شيء يقضى به لصاحب السترة ; لأن الحائط قد يبنى لأجل السترة فكانت هذه علامة لاستحقاق صاحبها ، وهذا بخلاف الهوادي فإن الحائط لا يبنى لأجله فلا يستحق صاحبه به الترجيح

التالي السابق


الخدمات العلمية