الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل التحقيق

قال : ( باب التحقيق ) قال الله تعالى أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي التحقيق : تلخيص مصحوبك من الحق ، ثم بالحق ، ثم في الحق ، وهذه أسماء درجاته الثلاث .

وجه تعلقه بإشارة الآية : أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الله الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانا ، فطلب - بعد حصول العلم الذهني - تحقيق الوجود الخارجي ، فإن ذلك أبلغ في طمأنينة القلب ، ولما كان بين العلم والعيان منزلة أخرى ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى وإبراهيم لم يشك - صلى الله عليه وسلم - ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشك ، ولكن أوقع اسم [ ص: 360 ] " الشك " على المرتبة العلمية باعتبار التفاوت الذي بينها وبين مرتبة العيان في الخارج ، وباعتبار هذه المرتبة سمي العلم اليقيني - قبل مشاهدة معلومه - ظنا ، قال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون وقال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهذا الظن علم جازم ، كما قال تعالى واعلموا أنكم ملاقوه لكن بين الخبر والعيان فرق ، وفي المسند مرفوعا ليس الخبر كالعيان ولهذا لما أخبر الله موسى أنه قد فتن قومه ، وأن السامري أضلهم لم يحصل له من الغضب والكيفية وإلقاء الألواح ما حصل له عند مشاهدة ذلك .

إذا عرف هذا ، فقوله " التحقيق : تلخيص مصحوبك من الحق " هاهنا أربعة ألفاظ بتفسيرها يفهم مراده - إن شاء الله - .

أحدها : لفظ " التحقيق " وهو تفعيل من حقق الشيء تحقيقا ، فهو مصدر فعله [ ص: 361 ] حقق الشيء ، أي أثبته وخلصه من غيره .

الثانية : لفظ " التلخيص " ومعناه : تخليص الشيء من غيره ، فخلصه ولخصه يشتركان لفظا ومعنى ، وإن كان " التلخيص " أغلب ما في الذهن والتخليص أغلب على ما في الخارج ، فالتلخيص : تلخيص الشيء في الذهن ، بحيث لا يدخل فيه غيره ، والتخليص : إفراده في الخارج عن غيره .

الثالث : " المصحوب " وهو ما يصحب الإنسان في قصده ومعرفته من معلوم ومراد .

الرابع : " الحق " وهو الله سبحانه ، وما كان موصلا إليه ، مدنيا للعبد من رضاه .

إذا عرف هذا ، فمصحوب العبد من الحق هو معرفته ومحبته ، وإرادة وجهه الكريم ، وما يستعين به على الوصول إليه ، وما هو محتاج إليه في سلوكه ف " التحقيق " هو تخليصه من المفسدات القاطعة عنه ، الحائلة بين القلب وبين الموصل إليه ، وتحصينه من المخالطات ، وتخليصه من المشوشات ، فإن تلك قواطع له عن مصحوبه الحق ، وهي نوعان لا ثالث لهما : عوارض محبوبة ، وعوارض مكروهة .

فصاحب مقام التحقيق لا يقف مع العوارض المحبوبة ، فإنها تقطعه عن مصحوبه ومحبوبه ، ولا مع العوارض المكروهة ، فإنها قواطع أيضا ، ويتغافل عنها ما أمكنه ، فإنها تمر بالمكاثرة والتغافل مرا سريعا ، لا يوسع دوائرها ، فإنه كلما وسعها اتسعت ، ووجدت مجالا فسيحا ، فصالت فيه وجالت ، ولو ضيقها - بالإعراض عنها والتغافل - لاضمحلت وتلاشت ، فصاحب مقام التحقيق ينساها ويطمس آثارها ، ويعلم أنها جاءت بحكم المقادير في دار المحن والآفات .

قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مرة : العوارض والمحن هي كالحر والبرد ، فإذا علم العبد أنه لابد منهما لم يغضب لورودهما ، ولم يغتم لذلك ولم يحزن .

فإذا صبر العبد على هذه العوارض ولم ينقطع بها ؛ رجا له أن يصل إلى مقام التحقيق ، فيبقى مع مصحوبه الحق وحده ، فتهذب نفسه ، وتطمئن مع الله ، وتنفطم عن عوائد السوء ، حتى تغمر محبة الله قلبه وروحه ، وتعود جوارحه متابعة للأوامر ، فيحس قلبه حينئذ بأن معية الله معه وتوليه له ، فيبقى في حركاته وسكناته بالله لا بنفسه ، وترد على قلبه التعريفات الإلهية ، وذلك إنما يكون في منزل البقاء بعد الفناء ، [ ص: 362 ] والظفر بالمحبة الخاصة ، ويشهد الإلهية والقيومية والفردانية ، فإن على هذه المشاهد الثلاثة مدار المعرفة والوصول .

والمقصود : أن صاحب مقام " التحقيق " يعرف الحق ، ويميز بينه وبين الباطل ، فيمسك بالحق ، ويلغي الباطل ، فهذه مرتبة ، ثم يتبين له أن ذلك ليس به ، بل بالله وحده ؛ فيبرأ حينئذ من حوله وقوته ، ويعلم أن ذلك بالحق ، ثم يتمكن في ذلك المقام ، ويرسخ فيه قلبه ، فيصير تحقيقه بالله وفي الله .

ففي الأول : يخلص له مطلوبه من غيره ، ويتجرد له من سواه .

وفي الثاني : يخلص له إضافته إلى غيره ، وأن يكون سواه سبحانه .

وفي الثالث : تجرد له شهوده وقصوره ، بحيث صارت في مطلوبه .

فالأول : سفر إلى الله ، والثاني : سفر بالله ، والثالث : سفر في الله .

وإن أشكل عليك معنى السفر فيه والفرق بينه وبين السفر إليه ففرق بين حال العابد الزاهد السائر إلى الله ، الذي لم يفتح له في الأسماء والصفات والمعرفة الخاصة ، وبين حال العارف الذي قد كشف له في معرفة الأسماء والصفات والفقه فيها ما حجب عن غيره .

قوله : " أما الدرجة الأولى - وهي تخليص مصحوبك من الحق - : فأن لا يخالج علمك علمه " يعني : أنك كنت تنسب العلم إلى نفسك قبل وصولك إلى مقام التحقيق ففي حالة التحقيق تعود نسبته إلى معلمه ومعطيه الحق ، ولعل هذا معنى قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إذ جمعهم الرب تبارك وتعالى وقال ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا قيل : قالوه تأدبا معه سبحانه ، إذ ردوا العلم إليه ، وقيل : معناه لا علم لنا بحقيقة الباطن ، وإنما أجابنا من أجابنا ظاهرا ، والباطن غيب ، وأنت علام الغيوب .

والتحقيق - إن شاء الله - أن علومهم تلاشت في علمه سبحانه واضمحلت ، فصارت بالنسبة إليه كلا علم ، فردوا العلم كله إلى وليه وأهله ، ومن هو أولى به ، فعلومهم وعلوم الخلائق جميعهم في جنب علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر من بحار العالم ، و " المخالجة " المنازعة .

[ ص: 363 ] قوله : " وأما الدرجة الثانية : فأن لا ينازع شهودك شهوده ، هذا قريب من المعنى الأول ، والمعنى : أن الشهود الذي كنت تنسبه إلى نفسك قبل الفناء تصير بعد تنسبه إليه سبحانه ، لا إليك .

قوله " الدرجة الثالثة : أن لا يناسم رسمك سبقه " الرسم عندهم : هو الشخص وهو محدث مخلوق ، والرب تعالى هو القديم الخالق ، فإذا تحقق العبد بالحقيقة ؛ شهد الحق وحده منفردا عن خلقه ، فلم يناسم رسمه سبق الحق وأوليته ، والمناسمة كالمشامة ، يقال : ناسمه ، أي شامه ، فاستعار الشيخ اللفظة لأدنى المقاربة والملابسة ، أي لا يداني رسمك سبقه ، ولو بأدنى مناسمة ، بل تشهد الحق وحده منفردا عن كل ما سواه .

وهم يشيرون بذلك إلى أمر ، وهو : أن الله سبحانه كان ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ، فأما اللفظ الأول وهو " كان الله ولا شيء معه " فهذا قد روي في الصحيح في بعض ألفاظ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، وإن كان اللفظ الثابت كان الله ولم يكن شيء قبله وهو المطابق لقوله في الحديث الآخر الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء ولم يقل : فليس معك شيء .

وأما قوله " وهو الآن على ما كان عليه " فزيادة في الحديث ليست منه ، بل زادها بعض المتحذلقين ، وهي باطلة قطعا ، فإن الله مع خلقه بالعلم والتدبير والقدرة ، ومع أوليائه بالحفظ والكلاءة والنصرة ، وهم معه بالموافقة والمحبة ، وصارت هذه اللفظة [ ص: 364 ] مجنا وترسا للملاحدة من الاتحادية ، فقالوا : إنه لا وجود سوى وجوده أزلا وأبدا وحالا ، فليس في الوجود إلا الله وحده ، وكل ما تراه وتلمسه وتذوقه وتشمه وتباشره فهو حقيقة الله ، تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا .

وأما أهل التوحيد : فقد يطلقون هذه اللفظة ، ويريدون بها لفظا صحيحا ، وهو أن الله سبحانه لم يزل منفردا بنفسه عن خلقه ، ليس مخالطا لهم ، ولا حالا فيهم ، ولا ممازجا لهم ، بل هو بائن عنهم بذاته وصفاته .

وأما الشيخ وأرباب الفناء : فقد يعنون معنى آخر أخص من ذلك ، وهو المشار إليه بقوله " لا يناسم رسمك سبقه " أي لا ترى أنك معه بل تراه وحده ، ولهذا قال : فتسقط الشهادات ، وتبطل العبارات ، وتفنى الإشارات ، يعني : أنك إذا لم تشهد معه غيره ، وأسقطت الغير من الشهود ، لا من الوجود ، بخلاف ما يقول الملحد الاتحادي : إنك تسقط الغير شهودا ووجودا - سقطت الشهادات والعبارات والإشارات ؛ لأنها صفات العبد المحدث المخلوق ، والفناء يوجب إسقاطها .

والمعنى : أن الواصل إلى هذا المقام لا يرى مع الحق سواه ، فيمحو السوى في شهوده ، وعند الملحد يمحوه من الوجود ، والله أعلم وهو الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية