الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 508 ] وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون

                                                                                                                                                                                                ذكروا في عدد الألواح ، وفي جوهرها ، وطولها أنها كانت عشرة ألواح ، وقيل : سبعة ، وقيل : لوحين ، وأنها كانت من زمرد جاء بها جبريل عليه السلام وقيل : من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء ، وقيل : أمر الله موسى بقطعها من صخرة صماء لينها له ، فقطعها بيده وشقها بأصابعه ، وعن الحسن : كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراة ، وأن طولها كان عشرة أذرع ، وقوله : من كل شيء : في محل النصب مفعول كتبنا ، و موعظة وتفصيلا : بدل منه ، . والمعنى : كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام ، وقيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزأ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى عليهم السلام ، وعن مقاتل : كتب في الألواح : "إني أنا الله الرحمن الرحيم ، لا تشركوا بي شيئا ، ولا تقطعوا السبيل ، ولا تحلفوا باسمي كاذبين ; فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين" ، " فخذها " ، فقلنا له : خذها ، عطفا على كتبنا ، ويجوز أن يكون بدلا من قوله : فخذ ما آتيتك ، والضمير في "خذها" : للألواح ، أو لكل شيء ; لأنه في معنى الأشياء ، أو الرسالات ، أو للتوراة ، ومعنى "بقوة" : بجد وعزيمة فعل أولي العزم من الرسل يأخذوا بأحسنها أي : فيها ما هو حسن وأحسن ، كالاقتصاص ، والعفو ، والانتصار ، والصبر ، فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب ; كقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [الزمر : 55] ، وقيل : يأخذوا بما هو واجب أو ندب ; لأنه أحسن من المباح ، ويجوز أن يراد : يأخذوا بما أمروا به ، دون ما نهوا عنه ، على قولك : الصيف أحر من الشتاء سأريكم دار الفاسقين : يريد دار فرعون وقومه وهي مصر ، كيف أقفرت منهم ، ودمروا لفسقهم ، لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم ، وقيل : منازل عاد ، وثمود ، والقرون الذين أهلكهم الله ، لفسقهم في ممركم عليها في أسفاركم ، وقيل : دار الفاسقين : نار جهنم .

                                                                                                                                                                                                [ ص: 509 ] وقرأ الحسن : "سأوريكم" ، وهي لغة فاشية بالحجاز ، يقال : أورني كذا ، وأوريته ، ووجهه أن تكون من أوريت الزند ، كأن المعنى : بينه لي وأنره لأستبينه .

                                                                                                                                                                                                وقرئ : "سأورثكم" ، قراءة حسنة يصححها قوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون [الأعراف : 137] سأصرف عن آياتي : بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم ، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها ; غفلة وانهماكا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم ، وعن الفضيل بن عياض : ذكر لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام ، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي" ، وقيل : سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى ، بأن جمع لها السحرة ، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل ، ويجوز : سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها ، وتسميتها سحرا بإهلاكهم ، وفيه إنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات ; لتكبرهم وكفرهم بها ; لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم بغير الحق : فيه وجهان : أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين ; لأن التكبر بالحق لله وحده ، وأن يكون صلة لفعل التكبر ، أي : يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وإن يروا كل آية

                                                                                                                                                                                                : من الآيات المنزلة عليهم لا يؤمنوا بها : وقرأ مالك بن دينار : "وإن يروا" بضم الياء ، وقرئ : "سبيل الرشد" ، و "الرشد" ، و "الرشاد" ; كقولهم : السقم ، والسقم ، والسقام ، وما أسفه من ركب المفازة ، فإن رأى طريقا مستقيما أعرض عنه وتركه ، وإن رأى معتسفا مرديا أخذ فيه وسلكه ، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه ، "ذلك" : في محل الرفع أو النصب على معنى : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه ولقاء الآخرة : يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به ، أي : ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ، ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى : ولقاء ما وعد الله في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية