الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ثم كان يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه ، وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضا ، وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله وهو وهم ، فلا يصح ذلك عنه البتة ، والذي غره أن الراوي غلط من قوله : ( كان يكبر في كل خفض ورفع ، إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع ) وهو ثقة ، ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه فصححه . والله أعلم .

( وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ، ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه ) هذا هو الصحيح الذي رواه شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل بن حجر : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ) [ ص: 216 ] ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك .

وأما حديث أبي هريرة يرفعه ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض [ ص: 217 ] الرواة ، فإن أوله يخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ، فإن البعير إنما يضع يديه أولا ، ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه ، لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا ، فهذا هو المنهي عنه . وهو فاسد لوجوه .

أحدها : أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولا وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولا وتبقى يداه على الأرض ، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وفعل خلافه . وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب ، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى .

وكان يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته . وإذا رفع رفع رأسه أولا ثم يديه ثم ركبتيه ، وهذا عكس فعل البعير ، وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات ، فنهى عن بروك كبروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، ونقر كنقر الغراب ، ورفع الأيدي وقت [ ص: 218 ] السلام كأذناب الخيل الشمس ، فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات .

الثاني : أن قولهم : ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة ، وإنما الركبة في الرجلين ، وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة فعلى سبيل التغليب .

الثالث : أنه لو كان كما قالوه لقال : فليبرك كما يبرك البعير ، وإن أول ما يمس الأرض من البعير يداه .

وسر المسألة أن من تأمل بروك البعير وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب ، والله أعلم .

وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله ، ولعله " وليضع ركبتيه قبل يديه " ، كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر ( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فقال : ( ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن [ ص: 219 ] بلال ) .

وكما انقلب على بعضهم حديث : ( لا يزال يلقى في النار فتقول : هل من مزيد ، إلى أن قال : وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ، فقال : وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ، حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك ، فقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ، ولا يبرك كبروك الفحل ) ورواه الأثرم في سننه أيضا عن أبي بكر كذلك .

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر .

قال ابن أبي داود : حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا ابن فضيل هو محمد ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه )

وقد روى ابن خزيمة في " صحيحه " من حديث مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين ، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ) وعلى [ ص: 220 ] هذا ، فإن كان حديث أبي هريرة محفوظا فإنه منسوخ ، وهذه طريقة صاحب " المغني " وغيره ، ولكن للحديث علتان .

إحداهما : أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل ، وليس ممن يحتج به ، قال النسائي : متروك . وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا لا يحتج به ، وقال ابن معين : ليس بشيء .

الثانية : أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا ، إنما هو قصة التطبيق ، وقول سعد : كنا نصنع هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب .

وأما قول صاحب " المغني " عن أبي سعيد قال : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين ) فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم ، وإنما هو عن سعد ، وهو أيضا وهم في المتن كما تقدم ، وإنما هو في قصة التطبيق ، والله أعلم .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فقد علله البخاري والترمذي والدارقطني .

قال البخاري : محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه ، وقال : لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا .

وقال الترمذي : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه . وقال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد ، وقد ذكر النسائي عن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد [ ص: 221 ] عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يعمد أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل ) ولم يزد .

قال أبو بكر بن أبي داود : وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه ( كان يضع يديه قبل ركبتيه ) ويقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك . رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال : على شرط مسلم .

وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه قال الحاكم : على شرطهما ولا أعلم له علة .

قلت : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ، فقال : هذا الحديث منكر . انتهى .

وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث والعلاء هذا مجهول لا ذكر [ ص: 222 ] له في الكتب الستة . فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى .

وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ، ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر ، وغيرهما ، وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا : حفظنا عن عمر في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه ، ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال : قال إبراهيم النخعي : حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه ، وذكر عن أبي مرزوق ، عن وهب ، عن شعبة ، عن مغيرة قال : سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد ؟ قال أويصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون !

قال ابن المنذر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبه قال النخعي ، ومسلم بن يسار ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأهل الكوفة .

وقالت طائفة : يضع يديه قبل ركبتيه ، قاله مالك . وقال الأوزاعي : أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم . قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث .

قلت : وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي ، وهو ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه على ركبتيه ) قال [ ص: 223 ] البيهقي : فإن كان محفوظا كان دليلا على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الإهواء إلى السجود .

وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه :

أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة ، قاله الخطابي وغيره .

الثاني : أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم ، فمنهم من يقول فيه : وليضع يديه قبل ركبتيه ، ومنهم من يقول بالعكس ، ومنهم من يقول : وليضع يديه على ركبتيه ، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسا .

الثالث : ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما .

الرابع : أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ ، قال ابن المنذر : وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ ، وقد تقدم ذلك .

الخامس : أنه الموافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة ، بخلاف حديث أبي هريرة .

السادس : أنه الموافق للمنقول عن الصحابة ، كعمر بن الخطاب وابنه ، وعبد الله بن مسعود ، ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه .

السابع : أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم ، وليس لحديث أبي هريرة شاهد ، فلو تقاوما ؛ لقدم حديث وائل بن حجر من أجل شواهده ، فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدم . [ ص: 224 ] الثامن : أن أكثر الناس عليه ، والقول الآخر إنما يحفظ عن الأوزاعي ومالك ، وأما قول ابن أبي داود : إنه قول أهل الحديث ، فإنما أراد به بعضهم ، وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه .

التاسع : أنه حديث فيه قصة محكية سيقت لحكاية فعله صلى الله عليه وسلم ، فهو أولى أن يكون محفوظا ؛ لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية دل على أنه حفظ .

العاشر : أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره ، فهي أفعال معروفة صحيحة وهذا واحد منها فله حكمها ، ومعارضه ليس مقاوما له ، فيتعين ترجيحه ، والله أعلم .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ، ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن ، ولكن روى عبد الرزاق في " المصنف " من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته ، وهو من رواية عبد الله بن محرر وهو متروك ، وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي ، متروك عن متروك ، وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي في المسجد فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته ، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبهته .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض كثيرا ، وعلى الماء والطين ، وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل ، وعلى الحصير المتخذ منه ، وعلى الفروة المدبوغة .

وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ، ونحى يديه عن جنبيه ، [ ص: 225 ] وجافى بهما حتى يرى بياض إبطيه ، ولو شاءت بهمة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمر تحتهما لمرت .

وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه ، وفي " صحيح مسلم " عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ) .

وكان يعتدل في سجوده ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة .

وكان يبسط كفيه وأصابعه ، ولا يفرج بينها ولا يقبضها ، وفي " صحيح ابن حبان ( كان إذا ركع فرج أصابعه فإذا سجد ضم أصابعه ) .

وكان يقول : ( سبحان ربي الأعلى ) وأمر به .

وكان يقول : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) .

[ ص: 226 ] وكان يقول : ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح ) .

وكان يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ) .

وكان يقول : ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ) .

وكان يقول : ( اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ) .

وكان يقول : ( اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقه وجله ، وأوله وآخره ، وعلانيته وسره ) .

وكان يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي ، وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، أنت [ ص: 227 ] إلهي لا إله إلا أنت ) .

وكان يقول : ( اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، واجعل لي نورا ) .

وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال : ( إنه قمن أن يستجاب لكم ) . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ، أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل ، فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين ، وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين ، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين .

والاستجابة أيضا نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، واستجابة دعاء المثني بالثواب ، وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [ البقرة : 187 ] والصحيح أنه يعم النوعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية