الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك : تذكير لنعمة أخرى عليهم؛ بعدما صدر عنهم ما صدر؛ من الجناية العظيمة؛ التي هي اتخاذ العجل؛ أي: لن نؤمن لأجل قولك ودعوتك؛ أو: لن نقر لك. والمؤمن به: إعطاء الله (تعالى) إياه التوراة؛ أو تكليمه إياه؛ أو أنه نبي؛ أو أنه (تعالى) جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم؛ حتى نرى الله جهرة ؛ أي: عيانا؛ وهي في الأصل مصدر قولك: "جهرت بالقراءة"؛ استعيرت للمعاينة؛ لما بينهما من الاتحاد في الوضوح؛ والانكشاف؛ إلا أن الأول في المسموعات؛ والثاني في المبصرات؛ ونصبها على المصدرية؛ لأنها نوع من الرؤية؛ أو حال من الفاعل؛ أو المفعول؛ وقرئ بفتح الهاء؛ على أنها مصدر كـ "الغلبة"؛ أو جمع كـ "الكتبة"؛ فيكون حالا من الفاعل لا غير؛ والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبة عن عبادة العجل؛ روي أنهم لما ندموا على ما فعلوا؛ وقالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ؛ أمر الله (تعالى) موسى - عليه السلام - أن يجمع سبعين رجلا؛ ويحضر معهم الطور؛ يظهرون فيه تلك التوبة؛ فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمود من الغمام؛ وتغشاه كله؛ فكلم الله (تعالى) موسى - عليه السلام - يأمره؛ وينهاه؛ وكان كلما كلمه (تعالى) أوقع على جبهته نورا ساطعا؛ لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه؛ وسمعوا كلامه (تعالى) مع موسى - عليه السلام -: "افعل؛ ولا تفعل"؛ فعند ذلك طمعوا في الرؤية؛ فقالوا ما قالوا؛ كما سيأتي في سورة "الأعراف"؛ إن شاء الله (تعالى)؛ وقيل: عشرة آلاف من قومه؛ فأخذتكم الصاعقة ؛ لفرط العناد؛ والتعنت؛ وطلب المستحيل؛ فإنهم ظنوا أنه - سبحانه وتعالى - مما يشبه الأجسام؛ وتتعلق به الرؤية تعلقها بها؛ على طريق المقابلة في الجهات؛ والأحياز؛ ولا ريب في استحالته؛ إنما الممكن في شأنه (تعالى) الرؤية المنزهة عن الكيفيات بالكلية؛ وذلك للمؤمنين في الآخرة؛ وللأفراد من الأنبياء الذين بلغوا في صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم؛ وهم في جلابيب من أبدانهم؛ قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس؛ في بعض الأحوال في الدنيا؛ قيل: جاءت نار من السماء فأحرقتهم؛ وقيل: صيحة؛ وقيل: جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة؛ وعن وهب أنهم لم يموتوا؛ بل لما رأوا تلك الهيئة الهائلة أخذتهم الرعدة؛ ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم؛ وتنقض ظهورهم؛ وأشرفوا على الهلاك؛ فعند ذلك بكى موسى - عليه السلام -؛ ودعا ربه؛ فكشف الله - عز وجل - عنهم ذلك؛ فرجعت إليهم عقولهم ومشاعرهم؛ ولم تكن صعقة موسى - عليه السلام - موتا؛ بل غشية؛ لقوله (تعالى): فلما أفاق ؛ وأنتم تنظرون ؛ أي ما أصابكم بنفسه؛ أو بآثاره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية