الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          استكبارهم على الرسل

                                                          ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون

                                                          * * *

                                                          ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل ، وكيف نقضوا ميثاقا بعد ميثاق حتى ما يتعلق بسلامة جماعتهم ، وحمايتهم لأنفسهم . بعد ذلك ، ذكر استقبالهم للرسل ، وكتبهم فقال تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل الكتاب الذي أنزله الله على موسى هو التوراة ، وليس هو الذي يطلقون عليه اسم التوراة ، أولا : لأنه يشتمل على أخبار الأنبياء من بعدهداود وسليمان وغيرهما من الأنبياء الذين جاءوا من بعده ، فلا يمكن بالبداهة أن يكون قد نزل على موسى ما جاء بعده من أخبار نبيين جاءوا من بعده بمئات السنين ، وثانيا : لأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا ونسوا حظا كثيرا مما نقل إليهم ، ولا يزالون يحرفون ، ويغيرون ويبدلون ، ويعبثون . وإن الكتاب الذي نزل علىموسى هي الأسفار الخمسة ، وقد حرفوها وغيروا وبدعوا ، ولا يزالون يفعلون . [آتى] الله تعالى موسى عليه السلام [ ص: 302 ] الكتاب الصادق الذي هو حجة عليهم وليس ما بأيديهم حجة لهم لأنهم كتبوه بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون

                                                          وإن الله تعالى أرسل الرسل من بعد موسى ، ليؤيدوا ما دعا إليه في الكتاب الذي نزل عليه ; ولذا قال تعالى : وقفينا من بعده بالرسل أي جاء بعده رسل تترى ، رسولا بعد رسول ، فمعنى قفينا أرسلنا رسولا وراء رسول وراء رسول لأن التقفية التتابع بحيث يكون كل رسول في قفا الرسول الآخر وراءه ، ومعنى هذا التتابع أن يكون الجميع على نمط واحد ، وغاية واحدة ، فإن الخط المستقيم المتتابع في نقطة ينتهي إلى نقطة واحدة ، وهي الوحدانية ، والتكليفات الإلهية الواحدة ، كما قال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب

                                                          ولقد ذكر بعد ذلك عيسى عليه السلام ، وقد بعث في اليهود ، أي كانت دعوته الأولى في اليهود ، ومعه المعجزات الباهرة فقال تعالى : وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ذكره سبحانه وتعالى في ضمن الرسل الذين تتابعوا من بعد موسى ، وقفاهم الله تعالى به ، رسولا بعد رسول ، فهو رسول من بينهم ، ولكن اختصه تعالى ببينات أي معجزات حسية باهرة قاطعة في الدلالة على رسالته ، ولكنهم كفروا ، وقد ذكر سبحانه وتعالى هذه البينات في آيات أخرى من القرآن ، منها ما جاء في سورة آل عمران ، فقد قال تعالى مبشرا مريم بولادة المسيح عليه السلام ، وهي مستغربة أن يكون من غير أب : قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض [ ص: 303 ] الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم

                                                          * * *

                                                          هذه بعض البينات ، وذكرت بينات أخرى في سورة المائدة منها أنه بإذن الله يرد الحياة إلى الموتى ، والفاعل هو الله تعالى وأجرى الإحياء على يد عيسى عليه السلام ، وأنه ينادي الموتى من قبورهم فيخرجون بإذن الله تعالى العلي القدير ، وأنه نزل عليه مائدة من السماء ، فكانت آية أخرى .

                                                          وفي هذا المقام لا بد من ذكر أمرين :

                                                          أولهما - أن اليهود كفروا بهذه الآيات البينات ، ولم يذعنوا للحق وحاولوا قتل المسيح عليه السلام ، وأرادوا أن يكون في عداد النبيين الذين قتلوهم ، ولكن الله تعالى حماه منهم ، وادعى النصارى الذين جاءوا بعد المسيح عليه السلام أنهم قتلوه لأوهام توهموها ، وأكاذيب اخترعها بولس الذي كان له عدوا مبينا .

                                                          الأمر الثاني - وهو لماذا كانت هذه البينات الخارقة للعادة للمسيح من بين سائر النبيين ; وإن كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ما هو أجل وأعظم ، وجاء مثلها على يديه ، ولكنه لم يتحد بها ، بل تحدى بالقرآن العظيم الخليقة كلها في كل أجيالها ، ولا يزال يتحدى العصور إلى اليوم .

                                                          كانت معجزات عيسى أو بيناته كما عبر القرآن الكريم من هذا النوع ; لأن اليهود ما كانوا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعترفون بالروح في كتابتهم ، ولا في أنفسهم ، ولا في دراساتهم الدينية في العصر الذي بعث الله تعالى عيسى عليه السلام فيه ولا العصر الذي قارنه وسبقه ، فكان لا بد من أمر روحي يقرع حسهم وحالهم المادي فكان خلق عيسى عليه السلام ، وكان أمرا خارقا للعادة مبطلا سلطان المادة ، وكانت المعجزات كلها من الناحية الروحية فهو يخبرهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، وهو يبرئ الأكمه والأبرص وهو ينفخ في الطين فيكون طيرا ، وهو يحيي الموتى ، وهو يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله تعالى ، والله تعالى ينزل المائدة فيأكلون [ ص: 304 ] منها ، كما كان ينزل المن والسلوى على بني إسرائيل عند خروجهم من مصر ، وهم يعيشون في سيناء .

                                                          هذا بالنسبة لبني إسرائيل خاصة ، أما بالنسبة للعقل البشري عامة الذي عاصر المسيح عليه السلام ، وكان في القرون التي قبلها ، فهو أنه عصر الفلسفة الأيونية التي تولدت منها الفلسفة اليونانية ، وقد كان هذا العصر تسوده فلسفة الأسباب والمسببات فلكل شيء سبب عادي ، وكل سبب هو سبب لشيء وأتبع سببا ، فالوجود كله يؤثر بعضه في بعضه ، فالولد يكون من أب وأم ، يكون من أصلاب الآباء وبطون الأمهات ، والأبرص والأكمه لا يشفيان ، ولا يمكن أن يعود الميت حيا ، ولا أن يخرج الأموات من قبورهم ، وهكذا فكان لا بد من قوارع تبين أن الأسباب والمسببات من الله ، الله تعالى أبدعها بديع السماوات والأرض ، وهو يغيرها ، وهو الفعال لما يريد .

                                                          لقد تطاولوا حتى قالوا : إن الوجود منشأ من موجده بنظام الأسباب والمسببات ، فهو وجد منه وجود المعلول من علته ، فهو ليس مختارا حتى في وجوده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، فهو القادر المختار المريد العليم السميع البصير ، ليس كمثله شيء وهو فعال لما يريد .

                                                          كانت معجزات عيسى عليه السلام قاطعة في إبطال الأسباب العادية والمسببات ولوازمها ، فتعالى الله ، وتقدست ذاته وتنزهت صفاته .

                                                          وما يدعى من أن عصر عيسى عليه السلام كان عصر علم الطب لا يؤيده التاريخ ، بل كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى وخاطبهم برسالته ومعجزاته كانوا أجهل الناس بالطب كما حكى عنهم الفيلسوف المسيحي رينان في كتابه .

                                                          أيد الله تعالى المسيح عليه السلام بالبينات الباهرة ، ولكن بني إسرائيل كفروا بها ، وأيده عليه السلام بروح القدس ، فقال تعالى : وأيدناه بروح القدس وروح القدس هو جبريل رسول الله تعالى إلى رسله ، كما قال تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فالرسول [ ص: 305 ] الذي يرسله الله تعالى إلى رسله هو الملك جبريل عليه السلام ، وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :


                                                          وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء



                                                          وقال تعالى : نـزل به الروح الأمين وروح القدس من إضافة الموصوف إلى الوصف ، أي الروح القدس أي الطاهر وقد وصف بالأمين ، كما ترى في الآية التي تلونا ، وليس إلها ، ولا ثالث ثلاثة كما قال الذين لا يؤمنون إلا بالأوهام ، وهم النصارى الذين يتبعون بولس عدو المسيح ، ولا يتبعون المسيح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .

                                                          كفر بنو إسرائيل بالمسيح عليه السلام ، وقد أتى بهذه البينات القاهرة ، ولكنهم كفروا استكبارا عن اتباعه عليه السلام ، " ولأن ما جاء به يخالف أهواءهم فهم يريدون الرسول داعيا إلى ما تهوى أنفسهم ، والكفر ملازم لكل من جعل إلهه هواه ، فهو يدين لكل ما يتبع أهواءهم ، ولا يدينون دين الحق الذي يقوم الدليل على صحته ، وأنه من عند الله ; ولذلك قال الله تعالى في بني إسرائيل : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم

                                                          والهوى هو الميل إلى الشيء بالانحراف ، ويسمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى الباطل من كل شيء فهو يهوي إلى الخلق الفاسد ، وإلى الضلال ، ومن بعد ذلك يهوي به إلى النار .

                                                          وإنهم يرفضون طاعتهم للحق إطاعة لهواهم ولكنهم يسترون ذلك بالاستكبار ، واستصغار الحق ومن يدعو إليه مستعلين عليه ، كأنهم هم وحدهم ، حملة الرسالة الإلهية ولا يحملها سواهم ، لأنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولذلك كانوا مستمرين في غوايتهم .

                                                          قوله تعالى : أفكلما جاءكم الفاء لترتيب ما بعدها من حكم على ما كان قبلها من كفر متوال مستمر ، والهمزة للاستفهام وهو لإنكار الواقع الذي هم فيه ، [ ص: 306 ] وكلما شرطية تدل على تكرار الفعل وهو الجواب إذا تكرر الشرط ، والمعنى يتكرر منكم الاستكبار كلما جاء نبي من الأنبياء بما لا تهوى ولا تحب أنفسكم ، وإن ذلك توبيخ لهم لحاضرهم وماضيهم على سواء ، لأنهم في الباطل أمة واحدة ، يتبع خلفهم سلفهم ، ويدين آخرهم بما يدين به أولهم ، فهم جميعا يستكبرون عن الحق ، وحالهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو حال أسلافهم مع أنبيائهم ، فهم استكبروا عن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ليس من بني إسرائيل ولأنه لم يجئ بما تهوى نفوسهم .

                                                          وإنهم إذ يستكبرون يرتبون من ماضيهم على الاستكبار إما التكذيب المجرد ، كما كانوا يفعلون مع الأنبياء ، وكما فعلوا مع عيسى عليه السلام ، إذ حاولوا قتله ، فأنجاه الله تعالى منهم ، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله تعالى إليه ، وإما التكذيب المقرون بالاعتداء الآثم ; ولذا قال تعالى فيما ترتب على الاستنكار : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون

                                                          فالفاء للترتيب ، أي ترتب على الاستكبار الآثم أن كذبتم ، وأن زدتم على التكذيب القتل ، كما فعلتم معيحيى وزكريا عليهما السلام ، وكما حاولتم أن تفعلوا مع عيسى فرد الله تعالى كيدكم في نحوركم .

                                                          وقد عللوا تكذيبهم للأنبياء الذي دفع إليه استكبارهم بقولهم : وقالوا قلوبنا غلف وغلف جمع أغلف وهو ما عليه غلاف أي غطاء يمنع وصول ما يدعو إليه الرسول إلى قلوبهم ، وهو كقوله تعالى حكاية عن أمثالهم : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وذلك لأن الهوى إذا سيطر سد مسامع الإدراك الصحيح فيكون لهم قلوب لا يفقهون بها ، فهم لا يدركون ، وهم إذ يحكمون على أنفسهم ذلك الحكم ، فهو صادق فعلى قلوبهم غلاف من الهوى سد معرض عن الحق ، وهم يقولون ذلك القول مصرين على التكذيب ; ولذا قال تعالى : بل لعنهم الله بكفرهم أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته ، وهو حكم تقريري ، مثبت لغلف قلوبهم ، والإضراب في قوله تعالى : بل لعنهم إضراب عن قبول اعتذارهم ، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية .

                                                          [ ص: 307 ] ويفسر ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما معنى قولهم في " قلوبنا غلف " إن قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم جديد يأتي به الرسول محمد أو غيره ، وقرأ ابن عباس غلف جمع غلاف ، والمعنى أن قلوبهم امتلأت علما حتى الكظة ووضع عليها غلاف محكم يمنع أن يخرج العلم ، ويمنع أن يدخل إليه غيره ، وهو تعبير تصويري ويتفق معه وصف استكبارهم ، ويكون معنى : بل لعنهم الله لعناهم ، وطردناهم ، فالإضراب في " بل " رد لادعاء العلم بالنبوات ، بل هو غرور راكز في نفوسهم منعهم من إدراك الحقائق الدينية ، والرسالات الإلهية التي انتهتا برسالة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم .

                                                          وإن ذلك متفق مع قوله تعالى في سورة النساء : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

                                                          وقد رتب الله تعالى على تغليف قلوبهم ووضعهم الغطاء المانع من دخول الحق إليها ، فقال تعالى : فقليلا ما يؤمنون الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه ترتب على تغليف قلوبهم عن الحق ألا يؤمنوا به ، و " ما " في النص السامي الكريم للدلالة على القلة الشديدة ، والمعنى فقليلا أي قلة يؤمنون ، والعلة واضح أنها في العدد لا في الإيمان ، فالإيمان لا يتجزأ إلى قليل أو كثير ، فهو كامل دائما ، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه ، وذلك لا يكون إلا كاملا ، فالقلة والكثرة في عدد المؤمنين لا في مقدار إيمانهم ، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره : إيمانا قليلا أي قلة يؤمنون ، والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان ، بل فيمن اتصفوا بالإيمان ، لأنهم يكونون عددا قليلا ، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل [ ص: 308 ] الكتاب : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية