الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

استئناف ابتدائي بخطاب موجه إلى النصارى خاصة .

وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضا بأنهم خالفوا كتابهم .

وقرينة أنهم المراد هي قوله إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله إلى قوله ( أن يكون عبدا لله ) فإنه بيان للمراد من إجمال قوله لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق وابتدئت موعظتهم بالنهي عن الغلو لأن النصارى غلوا في تعظيم عيسى فادعوا له بنوة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة .

والغلو : تجاوز الحد المألوف ، مشتق من غلوة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، [ ص: 51 ] واستعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشروع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال . والغلو في الدين أن يظهر المتدين ما يفوت الحد الذي حدد له الدين . ونهاهم عن الغلو لأنه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصادقين . وغلو أهل الكتاب تجاوزهم الحد الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتباع التوراة ومحبة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بغضة الرسل كعيسى ومحمد عليهما السلام ، والنصارى طولبوا باتباع المسيح فتجاوزوا فيه الحد إلى دعوى إلهيته أو كونه ابن الله ، مع الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقوله ولا تقولوا على الله إلا الحق عطف خاص على عام للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع . وفعل القول إذا عدي بحرف ( على ) دل على أن نسبة القائل القول إلى المجرور بـ ( على ) نسبة كاذبة ، قال تعالى ويقولون على الله الكذب . ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئا يزعمون أنه من دينهم ، فإن الدين من شأنه أن يتلقى من عند الله .

وقوله إنما المسيح عيسى ابن مريم جملة مبينة للحد الذي كان الغلو عنده ، فإنه مجمل ; ومبينة للمراد من قول الحق .

ولكونها تتنزل من التي قبلها منزلة البيان فصلت عنها . وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفة كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحا من عند الله . فالقصر قصر موصوف على صفة . والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوهم في هذه الصفات غلوا أخرجها عن كنهها ; فإن هذه الصفات ثابتة لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا ينكر عليهم وصف عيسى بها ، لكنهم تجاوزوا الحد المحدود لها فجعلوا الرسالة البنوة ، وجعلوا الكلمة اتحاد حقيقة الإلهية بعيسى في بطن مريم فجعلوا [ ص: 52 ] عيسى ابنا لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكونت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفس الإلهية .

والقصر إضافي ، وهو قصر إفراد ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يزاد على تلك الصفات من كون المسيح ابنا لله واتحاد الإلهية به وكون مريم صاحبة .

ووصف المسيح بأنه كلمة الله وصف جاء التعبير به في الأناجيل ; ففي صدر إنجيل يوحنا : في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ، ثم قال والكلمة صار جسدا وحل بيننا . وقد حكاه القرآن وأثبته فدل على أنه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنه أثر كلمة الله . والكلمة هي التكوين ، وهو المعبر عنه في الاصطلاح بـ ( كن ) . فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنه تعلق القدرة . ووصف عيسى بذلك لأنه لم يكن لتكوينه التأثير الظاهر المعروف في تكوين الأجنة ، فكان حدوثه بتعلق القدرة ، فيكون في كلمته في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفية .

ومعنى ألقاها إلى مريم أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلا فإن المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين . ووصف عيسى بأنه روح الله وصف وقع في الأناجيل . وقد أقره الله هنا ، فهو مما نزل حقا .

ومعنى كون عيسى روحا من الله أن روحه من الأرواح التي هي عناصر الحياة ، لكنها نسبت إلى الله لأنها وصلت إلى مريم بدون تكون في نطفة فبهذا امتاز عن بقية الأرواح . ووصف بأنه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأن عيسى لما غلبت على نفسه الملكية وصف بأنه روح ، كأن حظوظ الحيوانية مجردة عنه . وقيل : الروح النفخة . والعرب تسمي النفس روحا والنفخ روحا . قال ذو الرمة يذكر لرفيقه أن يوقد نارا بحطب :

[ ص: 53 ]

فقلت له ارفعها إليك فأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا

أي بنفخك .

وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل . و ( من ) ابتدائية على التقادير .

فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى ؟ وهلا وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي فكان أصرح في بيان العبودية ، وأنفى للضلال ؟

قلت : الحكمة في ذلك أن هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى عليه السلام ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ ، فلما تغيرت أساليب اللغات ، وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرب الضلال إلى النصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أن قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدي إلى اعتقاد أنه ابن الله وأنه إله .

وتصدير جملة القصر بأنه رسول الله ينادي على وصف العبودية إذ لا يرسل الإله إلها مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح .

التالي السابق


الخدمات العلمية