الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 366 ] فصل

قال الشيخ : " وهو اسم لثلاثة معان ، أولها : تلبيس الحق سبحانه بالكون على أهل التفرقة ، وهو تعليقه الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين ، وتعليقه المعارف بالوسائط ، والقضايا بالحجج ، والأحكام بالعلل ، والانتقام بالجنايات ، والمثوبة بالطاعات ، وأخفى الرضا والسخط اللذين يوجبان الفصل والوصل ، ويظهران الشقاوة والسعادة .

شيخ الإسلام حبيبنا ، ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : عمله خير من علمه ، وصدق - رحمه الله - ، فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى .

أما اللفظ : فتسميته فعل الله ، الذي هو حق وصواب وحكمة ورحمة ، وحكمه الذي هو عدل وإحسان ، وأمره الذي هو دينه وشرعه " تلبيسا " فمعاذ الله ، ثم معاذ الله من هذه التسمية ، ومعاذ الله من الرضا بها ، والإقرار عليها ، والذب عنها ، والانتصار لها ، ونحن نشهد بالله أن هذا تلبيس على شيخ الإسلام ، فالتلبيس وقع عليه ، ولا نقول : وقع منه ، ولكنه صادق لبس عليه ، ولعل متعصبا له يقول : أنتم لا تفهمون كلامه ، فنحن نبين مراده على وجهه - إن شاء الله - ، ثم نتبع ذلك بما له وعليه .

فقوله " أولها : تلبيس الحق بالكون على أهل التفرقة " والحق هاهنا المراد به الرب تعالى ، و " الكون " اسم لكل ما سواه ، و " أهل التفرقة " ضد أهل " الجمع " ، وسيأتي معنى الجمع عنده بعد هذا - إن شاء الله - ، فأهل التفرقة الذين لم يصلوا إلى مقام الجمع ، فأهل التفرقة عنده لبس عليهم الحق بالباطل ، فإنهم لبس عليهم الحق بالكون وهو الباطل ، وكل شيء ما خلا الله باطل ، وأهل التفرقة عندهم الذين غلب عليهم النظر إلى الأسباب حتى غفلوا عن المسبب ، ووقفوا معها دونه ، و " التلبيس " فعل من أفعال الرب تعالى ، وهو سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، ولذلك استدل على هذا المعنى بالآية ، وهي قوله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون [ ص: 367 ] ليعرفك أن هذا الفعل لا تمنع نسبته إلى الله كما لا تمنع نسبة الإضلال إليه .

ووجه هذا التلبيس : أنه - سبحانه - أضاف الأفعال الصادرة عن محض قدرته ومشيئته إلى أسباب وأزمنة وأمكنة ، فلبس الحق سبحانه على أهل التفرقة حيث علق الكوائن - وهي الأفعال - بالأسباب ، فنسبها أهل التفرقة إلى أسبابها ، وعموا عن رؤية الحق سبحانه ، ففي الحقيقة لا فعل إلا لله ، وأهل التفرقة يجهلون ذلك ، ويقولون : فعل فلان ، وفعل الماء ، وفعل الهواء ، وفعلت النار ، وكذلك تعليقه سبحانه المعارف بالوسائط ، وهي الأدلة السمعية والعقلية والفطرية ، وتعليقه المسموعات والمبصرات والملموسات بآلاتها وحواسها ، من السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، وهو سبحانه الخالق لتلك الإدراكات مقارنة لهذه الحواس ، وعندها ، لا بها ، ولا بقوى مودعة فيها ، وهو سبحانه قادر على خلق هذه المعارف بغير هذه الوسائط ، فحجب أهل التفرقة ، فهذه الوسائط عن إله قادر سبحانه حقيقة الذي لا فعل في الحقيقة إلا له ، فكأنه لبس على أهل التفرقة - أي أضلهم - بشهودهم الأسباب ، وغيبتهم بها عنه .

وكذلك القضايا - وهي الوقائع بين العباد - غلقها بالحجج الموجبة لها ، فكل قضاء وحكم لابد له من حجة يستند إليها ، فيحجب صاحب التفرقة بتلك الحجة عن المصدر الأول الذي منه ابتداء كل شيء ، ويقف مع الحجة ، ولا ينظر إلى من حكم بها ، وجعلها مظهرا لنفوذ حكمه وقضائه .

وكذلك تعليقه الأحكام بالعلل - وهي المعاني والمناسبات ، والحكم والمصالح - التي من أجلها ثبتت الأحكام ، وهو سبحانه واضع تلك المعاني ، ومضيف الأحكام إليها ، وإنما هي في الحقيقة مضافة إليه سبحانه .

وكذلك ترتيبه الانتقام على الجنايات ، وربطه الثواب بالطاعات ، كل ذلك مضاف إليه سبحانه وحده ، لا إلى الجنايات ، ولا إلى الطاعات ، فإضافة ذلك إليها تلبيس على أهل التفرقة ، وموضع التلبيس في ذلك كله أن أهل التفرقة يظنون أنه لولا تلك الوسائط لما وجدت معرفة ، ولا وقعت قضية ، ولا كان حكم ولا ثواب ، ولا عقاب ولا انتقام ، وهذا تلبيس عليهم ، فإن هذه الأمور إنما أوجبها محض مشيئة الله الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فانطوى حكم تلك الوسائط والأسباب والعلل في بساط المشيئة الأزلية ، واضمحلت في عين الحكم الأزلي ، وصارت من جملة الكائنات التي هي منفعلة لا فاعلة ، ومطيعة لا مطاعة ، ومأمورة لا آمرة وخلق من خلقه ، لا واسطة بينه وبين خلقه ، فهي به لا بهم ، ولهذا عاذ العارفون به منه وهربوا منه إليه ، والتجئوا منه إليه ، وفروا منه إليه ، وتوكلوا به عليه ، وخافوه بما منه لا من [ ص: 368 ] غيره ، فشهدوا أوليته في كل شيء ، وتفرده في الصنع وأنه ما ثم ما يوجب من الأشياء إلا مشيئته وحده ، فمشيئته هي السبب في الحقيقة وما يشاهد أو يعلم من الأسباب فمحل ومجرى لنفوذ المشيئة ، لا أنه مؤثر وفاعل ، فالوسائط لابد أن تنتهي إلى أول ، لامتناع التسلسل ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أعدى الأول ؟ والله سبحانه قدر المقادير ، وكتب الآثار والأعمال ، والشقاء والسعادة ، والثواب والعقاب ، حيث لا واسطة هناك ولا سبب ولا علة ، فأهل التفرقة وقفوا مع الوسائط ، وأهل الجمع نفذ بصرهم من الوسائط والأسباب إلى من أقامها وربط بها أحكامها .

قوله : " وأخفى الرضا والسخط اللذين هما موضع الوصل والفصل " ، يعني : أنه سبحانه أخفى عن عباده ما سبق لهم عنده من سخطه على من سخط عليه ، ورضاه عمن رضي عنه ، الموجبين لوصل من وصله ، وقطع من قطعه .

ومراده : أن هذا مع السبب الصحيح في نفس الأمر ، وهو رضاه وسخطه ، وإنما لبس سبحانه على أهل التفرقة الأمر بما ذكره من الجنايات والطاعات ، والعلل والحجج ، ولا سبب في الحقيقة إلا رضاه وسخطه ، وذلك لا علة له ، فالرضا هو الذي أوجب المثوبة لا الطاعة ، والسخط هو الذي أوجب العقوبة لا المعصية ، والمشيئة هي التي أوجبت الحكم لا الوسائط ، فأخفى الرب سبحانه ذلك عن خلقه ، وأظهر لهم أسبابا أخر علقوا بها الأحكام ، وذلك تلبيس من الحق عليهم ، فأهل التفرقة وقفوا مع هذا التلبيس ، وأهل الجمع صعدوا عنه وجاوزوه إلى مصدر الأشياء كلها ، وموجدها بمشيئته فقط .

فبالغ الشيخ في ذلك حتى جعل الرضا والسخط يظهران السعادة والشقاوة ، ولم يجعل الرضا والسخط مؤثرين فيهما ، وذلك لأن السعادة والشقاوة سبقت عنده سبقا محضا مستندا إلى محض المشيئة لا علة لهما ، والرضا والسخط أظهرا ما سبق به التقدير من السعادة والشقاوة ، فهذا أحسن ما يقال في شرح كلامه وتقريره ، وحمله على أحسن الوجوه وأجملها .

وأما ما فيه من التوحيد وانتهاء الأمور إلى مشيئة الرب جل جلاله ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن فذلك عقد نظام الإيمان ، ومع ذلك فلا يكفي وحده ، إذ غايته تحقيق توحيد الربوبية الذي لا ينكره عباد الأصنام ، وإنما الشأن في أمر آخر وراء هذا ؛ هذا بابه ، والمدخل إليه ، والدليل عليه ، ومنه يوصل إليه ، وهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب ، وعليه الثواب والعقاب ، والشرائع كلها [ ص: 369 ] تفاصيله وحقوقه ، وهو توحيد الإلهية والعبادة ، وهو الذي لا سعادة للنفوس إلا بالقيام به - علما وعملا ، وحالا - وهو أن يكون الله وحده أحب إلى العبد من كل ما سواه ، وأخوف عنده من كل ما سواه ، وأرجى له من كل ما سواه ، فيعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء بما يحبه هو ويرضاه ، وهو ما شرعه على لسان رسوله ، لا بما يريد العبد ويهواه ، وتلخيص ذلك في كلمتين " إياك أريد بما تريد " فالأولى : توحيد وإخلاص ، والثانية : اتباع للسنة وتحكيم للأمر .

والمقصود : أن ما أشار إليه في هذا الباب غايته تقرير توحيد الأفعال ، وهو توحيد الربوبية .

وأما جعله ما نصبه من الأسباب في خلقه وأمره ، وأحكامه ، وثوابه ، وعقابه تلبيسا ، فتلبيس من النفس عليه ، وليس ذلك - عند العارفين بالله ورسله وأسمائه وصفاته - من التلبيس في شيء ، وإنما ذلك مظهر أسمائه وصفاته ، وحكمته ، ونعمته ، وقدرته وعزته ، إذ ظهور هذه الصفات والأسماء ، تستلزم محال وتعلقات تتعلق بها ، ويظهر فيها آثارها ، وهذا أمر ضروري للصفات والأسماء ، إذ العلم لابد له من معلوم ، وصفة الخالقية ، والرازقية ، تستلزم وجود مخلوق ومرزوق ، وكذلك صفة الرحمة ، والإحسان ، والحلم ، والعفو ، والمغفرة ، والتجاوز - تستلزم ، فكيف يكون تعليق الأحكام ، والثواب ، والعقاب بها تلبيسا ؟ وهل ذلك محال تتعلق بها ، ويظهر فيها آثارها ، فالأسباب والوسائط ، مظهر الخلق والأمر ، إلا حكمة بالغة باهرة ، وآيات ظاهرة ، وشواهد ناطقة بربوبية منشئها ، وكماله ، وثبوت أسمائه وصفاته ؟ فإن الكون - كما هو محل الخلق والأمر ، ومظهر الأسماء والصفات - فهو بجميع ما فيه شواهد وأدلة وآيات ، دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها ، والاستدلال بها على وجود الخالق ، والاعتبار بما تضمنته من الحكم والمصالح والمنافع على علمه وحكمته ورحمته وإحسانه ، وبما تضمنته من العقوبات على عدله ، وأنه يغضب ويسخط ، ويكره ويمقت ، وبما تضمنته من المثوبات والإكرام على أنه يحب ، ويرضى ويفرح ، فالكون - بجملة ما فيه - آيات وشواهد وأدلة ، لم يخلق الله منها شيئا تلبيسا ، ولا وسطه عبثا ، ولا خلقه سدى .

فالأسباب والوسائط والعلل محل ادكار المتفكرين ، واعتبار الناظرين ، ومعارف المستدلين إن في ذلك لآيات للمتوسمين وكم في القرآن من الحث على النظر [ ص: 370 ] والاعتبار بها ، والتفكر فيها ، وذم من أعرض عنها ، والإخبار بأن النظر فيها والاستدلال ، يوجب العلم والمعرفة بصدق رسله ؛ فهو آيات كونية مشاهدة تصدق الآيات القرآنية ؟ ! ! .

فما علق بها آثارها سدى ، ولا رتب عليها مقتضياتها وأحكامها باطلا ، ولا جعل توسيطها تلبيسا البتة ، بل ذلك موجب كماله وكمال نعوته وصفاته ، وبها عرفت ربوبيته وإلهيته ، وملكه وصفاته وأسماؤه .

هذا ولم يخلقها سبحانه عن حاجة منه إليها ، ولا توقفا لكماله المقدس عليها ، فلم يتكثر بها من قلة ، ولم يتعزز بها من ذلة ، بل اقتضى كماله أن يفعل ما يشاء ، ويأمر ويتصرف ويدبر كما يشاء ، وأن يحمد ويعرف ، ويذكر ويعبد ، ويعرف الخلق صفات كماله ونعوت جلاله ، ولذلك خلق خلقا يعصونه ويخالفون أمره ، لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله ، وأولياؤه كمال مغفرته ، وعفوه ، وحلمه وإمهاله ، ثم أقبل بقلوب من شاء منهم إليه ، فظهر كرمه في قبول توبته ، وبره ولطفه في العود عليه بعد الإعراض عنه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يعفو عنها ويغفرها ؟ والعبد الذي له يغفر ؟ فخلق العبد المغفور له ، وتقدير الذنب الذي يغفر ، والتوبة التي يغفر بها هو نفس مقتضى العزة والحكمة ، وموجب الأسماء الحسنى ، والصفات العلا - ليس من التلبيس في شيء ، فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثواب والعقاب بالأسباب ، ولهذا سوى صاحب المنازل بين الأمرين ، وهو محض الحكمة وموجب الكمال الإلهي ، ومقتضى الحمد التام ، ومظهر صفة العزة ، والقدرة والملك ، والشرائع كلها - من أولها إلى آخرها - مبنية على تعليق الأحكام بالعلل ، والقضايا بالحجج ، والثواب بالطاعة ، والعقوبات بالجرائم ، فهل يقال : إن الشرائع كلها تلبيس ، بأي معنى فسر التلبيس ؟

ولعمر الله ، لقد كان في غنية عن هذا الباب ، وعن هذه التسمية ، ولقد أفسد الكتاب بذلك .

هذا ولا يجهل محل الرجل من العلم والسنة ، وطريق السلوك ، وآفته وعلله ولكن قصده تجريد توحيد الأفعال والربوبية قاده إلى ذلك ، وانضم إليه اعتقاده أن [ ص: 371 ] الفناء في هذا التوحيد هو غاية السلوك ، ونهاية العارفين ، وساعده اعتقاد كثير من المنتسبين إلى السنة ، الرادين على القدرية في الأسباب أنه لا تأثير لها البتة ، ولا فيها قوى ، ولا يفعل الله شيئا بشيء ولا شيئا لشيء ، فينكرون أن يكون في أفعاله باء سببية ، أو لام تعليل ، وما جاء من ذلك حملوا الباء فيه على باء المصاحبة ، واللام فيه على لام العاقبة ، وقالوا : يفعل الله الإحراق والإغراق والإزهاق عند ملاقاة النار ، والماء والحديد ، لا بهما ، ولا بقوى فيهما ، ولا فرق - في نفس الأمر - بين النار وبين الهواء والتراب والخشب ، وانضم إلى ذلك أن العبد ليس بفاعل أصلا ، وإنما هو منفعل محض ، ومحل جريان تصاريف الأحكام عليه ، وأن الفاعل فيه سواه ، والمحرك له غيره ، وإذا قيل : إنه فاعل أو متحرك ، فهو تلبيس .

فهذه الأصول : أوجبت هذا التلبيس على نفاة الحكم والأسباب ، وقابلهم آخرون ، فمزقوا لحومهم كل ممزق ، وفرقوا أديمهم ، وقالوا : عطلتم الشرائع ، والثواب ، والعقاب ، وأبطلتم حقيقة الأمر والنهي ، فإن مبنى ذلك على أن العباد فاعلون حقيقة ، وأن أفعالهم منسوبة إليهم على الحقيقة ، وأن قدرهم وإرادتهم ودواعيهم مؤثرة في أفعالهم ، وأفعالهم واقعة بحسب دواعيهم وإرادتهم ، على ذلك قامت الشرائع والنبوات ، والثواب ، والعقاب ، والحدود ، والزواجر ، فطرة الله التي فطر الناس عليها والحيوان ، وسويتم بين ما فرق الله بينه ، فإن الله سبحانه ما سوى بين حركة المختار وحركة من تحرك قسرا بغير إرادة منه أبدا ، ولا سوى بين حركات الأشجار ، وحركات ابن آدم ، ولا جعل الله سبحانه أفعال عباده وطاعتهم ومعاصيهم أفعالا له ، بل نسبها إليه حقيقة ، وأخبر : أنه هو الذي جعلهم فاعلين ، كما قال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال سادات العارفين به ربنا واجعلنا مسلمين لك وقال إبراهيم خليله رب اجعلني مقيم الصلاة فهو الذي جعل العبد كذلك ، والعبد هو الذي صلى وصام وأسلم ، وهو الفاعل حقيقة ، يجعل الله له فاعلا ، وهو السائر بتيسير الله له ، كما قال تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر فهذا فعله ، والسير [ ص: 372 ] فعلهم ، والإقامة فعله ، والقيام فعلهم ، والإنطاق فعله ، والنطق فعلهم ، فكيف تجعل نسبة الأفعال إلى محالها القائمة بها ، وأسبابها المظهرة لها : تلبيسا ؟

ومعلوم : أن طي بساط الأسباب والعلل : تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم ، وأما الوقوف مع الأسباب ، واعتقاد تأثيرها : فلا نعلم من أتباع الرسل من قال : إنها مستقلة بأنفسها ، حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب ، وإنما قالت طائفة من الناس - وهم القدرية - : إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ، ولا واقعة بمشيئته ، وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على ذمهم وتبديعهم وتضليلهم ، وبين أئمة السنة أنهم أشباه المجوس ، وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي ، فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ، ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ، ولبس على الفريقين الحق بالباطل .

والحق - الذي بعث به الله رسله ، وأنزل به كتبه ، وفطر عليه عباده ، وأودعه في عقولهم - : بين مذهب هؤلاء وهؤلاء ، فالهدى بين الضلالتين ، والاستقامة بين الانحرافين .

والمقصود : أن القرآن - بل وسائر كتب الله - تضمنت تعليق الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين ، وتعليق المعارف بالوسائط ، والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل ، والانتقام بالجنايات ، والمثوبات بالطاعات ، فإن كان هذا تلبيسا عاد الوحي والشرع والكتب الإلهية تلبيسا .

نعم ، التلبيس على من ظن أن ذلك التعليق على وجه الاستقلال ، بقطع النظر عن مسبب الأسباب ، وناصب الحكم والعلل ، فإن كان مراده : أنه لبس الأمر على هؤلاء ، فلم يهتدوا إلى الصواب ، فأبعد الله من ينتصر لهم ، ويذب عنهم ، فإنهم أضل من الأنعام ، وإن كان المراد من أثبت الأسباب والحكم والعلل ، وعلق بها ما علقه الله بها من الحكم والشرع ، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به ، ووضعها حيث وضعها - فقد لبس عليه ، فنحن ندين الله بذلك ، وإن سمي تلبيسا ، كما ندين بإثبات القدر ، وإن سمي جبرا ، وندين بإثبات الصفات وحقائق الأسماء ، وإن سمي تجسيما ، وندين بإثبات علو الله على عرشه فوق سماواته ، وإن سمي تحيزا أو جهة ، وندين بإثبات وجهه الأعلى ، ويديه المبسوطتين ، وإن سمي تركيبا ، وندين بحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن سمي نصبا ، وندين بأنه مكلم متكلم حقيقة كلاما يسمعه من خاطبه ، وأنه يرى بالأبصار عيانا حقيقة يوم لقائه ، وإن سمي ذلك تشبيها .

[ ص: 373 ] ويا لله العجب ! أليست الكوائن كلها متعلقة بالأسباب ؟ أوليس الرب تعالى - كل وقت - يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها ، ويظهرها بأسبابها التي سببها لها ، ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة والأزمنة التي عينها لها ؟ أوليس قد قدر الله المقادير ، وسبب الأسباب التي تظهر بها ، ووقت المواقيت التي تنتهي إليها ، ونصب العلل التي توجد لأجلها ، وجعل للأسباب أسبابا أخر تعارضها وتدافعها ؟ فهذه تقتضي آثارها ، وهذه تمنعها اقتضاءها ، وتطلب ضد ما تطلبه تلك .

أوليس قد رتب الخلق والأمر على ذلك ، وجعله محل الامتحان والابتلاء والعبودية ؟ أوليس عمارة الدارين - أعني الجنة والنار - بالأسباب والعلل والحكم ؟ ولا حاجة بنا أن نقول : وهو الذي خلق الأسباب ونصب العلل ، فإن ذكر هذا من باب بيان الواضحات التي لا يجهلها إلا أجهل خلق الله تعالى ، وأقلهم نصيبا من الإيمان والمعرفة .

أوليس القرآن - من أوله إلى آخره - قد علقت أخباره وقصصه عن الأنبياء وأممهم ، وأوامره ونواهيه وزواجره ، وثوابه وعقابه : بالأسباب ، والحكم والعلل ؟ وعلقت فيه المعارف بالوسائط ، والقضايا بالحجج ، والعقوبات والمثوبات بالجنايات والطاعات ؟

أوليس ذلك مقتضى الرسالة ، وموجب الملك الحق ، والحكمة البالغة ؟

نعم ، مرجع ذلك كله إلى المشيئة الإلهية المقرونة بالحكمة والرحمة والعدل ، والمصلحة والإحسان ، ووضع الأشياء في مواضعها ، وتنزيلها في منازلها ، وهو سبحانه الذي جعل لها تلك المواضع والمنازل ، والصفات والمقادير ، فلا تلبيس هناك بوجه ما ، وإنما التلبيس في إخراج الأسباب عن مواضعها وموضوعها وإلغائها ، أو في إنزالها غير منزلتها ، والغيبة بها عن مسببها وواضعها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية