الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآفة العاشرة المزاح .

وأصله مذموم منهي عنه إلا قدرا يسيرا يستثنى منه قال صلى الله عليه وسلم : لا تمار أخاك ولا تمازحه .

فإن قلت : المماراة فيها إيذاء ; لأن فيها تكذيبا للأخ والصديق أو تجهيلا له وأما المزاح فمطايبة وفيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه .

أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه ، واللعب مباح ، ولكن المواظبة عليه مذمومة وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال وتسقط المهابة والوقار فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني لأمزح ولا أقول إلا حقا ألا إن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقا وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى في النار أبعد من الثريا وقال عمر رضي الله عنه من كثر ضحكه قلت هيبته ومن مزج استخف به ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه .

ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا وقال رجل لأخيه يا أخي، هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم قال : فهل أتاك أنك خارج منها ؟ قال : لا : ففيم الضحك؟ قيل ؟ فما رؤي ضاحكا حتى مات وقال يوسف بن أسباط أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك وقيل : أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر ، فقال : إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين ، وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين وكان عبد الله بن أبي يعلى يقول : أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار وقال ابن عباس من أذنب ذنبا ، وهو يضحك ، دخل النار وهو يبكي .

وقال محمد بن واسع إذا رأيت في الجنة رجلا يبكي ألست تعجب من بكائه ؟ قيل : بلى . قال : فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه . فهذه آفة الضحك ، والمذموم منه أن يستغرق ضحكا ، والمحمود منه التبسم الذي ينكشف فيه السن ، ولا يسمع له صوت وكذلك ، كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاسم مولى معاوية أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب ، فسلم ، فجعل كلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله يفر به فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون منه ففعل ذلك مرارا ثم وقصه فقتله ، فقيل : يا رسول الله ، إن الأعرابي قد صرعه قلوصه ، وقد هلك فقال : نعم ، وأفواهكم ملأى من دمه .

التالي السابق


( الآفة العاشرة المزاح )

بكسر الميم: مصدر "مزح"، أو "مازح"، وبالضم اسم ما يمزح به، وهو المطايبة في الكلام باللسان، (وأصله) وكذا كثيره (مذموم) ، وكذا فاعله مذموم، وهو (منهي عنه إلا قدرا يسيرا يستثنى منه) ، وهو ما خلا عن الباطل. (قال صلى الله عليه وسلم: لا تمار أخاك ولا تمازحه ) رواه الترمذي وابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس ، وقد تقدم، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن أبي شيبة ، حدثنا المحاربي عن ليث ، عن عبد الملك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فساقه (فإن قلت: المماراة فيها إيذاء; لأن فيها تكذيبا للأخ) المؤمن، (والصديق) المرافق، (أو تجهيلا له) وهي لا تخلو من هذين، فوجه النهي عنها ظاهر، (وأما المزاح فمطايبة) في الكلام [ ص: 496 ] باللسان، (وفيه انبساط وطيب قلب) أي: سبب لهما، (فلم ينهى عنه) ، وليس فيه ما ينشأ عنه المكروه شرعا؟ (فاعلم أن المنهي عنه) أحد شيئين: (الإفراط فيه) ، وفي نسخة: منه، بأن يتجاوز عن الحد، (أو المداومة عليه) فيتخذه ديدنا له وصنعة، (أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل، واللعب مباح، ولكن المواظبة عليه مذمومة) ، وفي نسخة: مذموم، (وأما الإفراط فيه) أو منه، (فإنه يورث كثرة الضحك) ; لأن الذي يفرط فيه إنما غرضه أن يضحك الناس، (وكثرة الضحك تميت القلب) ، كما ورد في الخبر: "إياك وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب" . والمراد بإماتته غشيان الظلمة عليه، الناشئة من الغفلة عن ذكر الله تعالى، (وتورث الضغينة في بعض الأحوال) كما قاله عمر بن عبد العزيز ، وسيأتي. (وتسقط المهابة) والجلالة (والوقار) عن أعين الأبرار، كما سيأتي من قول عمر رضي الله عنه، (فما يخلو من هذه الأمور فلا يذم، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني أمزح ولا أقول إلا حقا ) ، تقدم في كتاب أخلاق النبوة .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال: قيل: "يا رسول الله، تمزح؟ قال: نعم، ولا أقول إلا حقا" ، (إلا أن مثله) صلى الله عليه وسلم (يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقا) لكمال مشاهدته لجلال الحق سبحانه، (وأما غيره إذا فتح باب المزاح) على نفسه (كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان) ، وإضحاك الناس سبب لإمالة قلوبهم ، ولا يخفى ما فيه، كيف (وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة) الواحدة لأجل أن (يضحك بها جلساءه) ومعاشريه (يهوي) أي: يسقط (بها في النار) أي: نار جهنم، (أبعد من الثريا) ، وهو النجم المعروف، وفي لفظ: أبعد من صنعاء ، وفي آخر: سبعين خريفا، وكل ذلك قد تقدم .

(وقال عمر) رضي الله عنه: (من كثر ضحكه قلت هيبته) ، أي: وقاره عن أعين الناس، (ومن مزح استخف به) ، أي: صار مهينا، (ومن أكثر من شيء عرف به) ، وأشير إليه به، (ومن كثر كلامه) ، ولو من غير مزاح (كثر سقطه) ، أي: سقوطه في الكلام وكذبه، (ومن كثر سقطه قل حياؤه) ، فلا يبالي بما يفعله، (ومن قل حياؤه قل ورعه) أي: خوفه من جلال هيبة الله تعالى، (ومن قل ورعه مات قلبه) ، قال ابن أبي الدنيا : حدثني أحمد بن عبيد التميمي ، حدثنا عبيد الله بن محمد التميمي ، حدثنا دريد بن مجاشع عن غالب القطان ، عن مالك بن دينار ، عن الأعمش ، عن قيس قال: قال عمر بن الخطاب : "من مزح استخف به" . وحدثني الحسن بن الصباح ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن موسى بن عقيل أن الأحنف بن قيس كان يقول: من كثر كلامه وضحكه ومزاحه، قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به .

وروى الطبراني في الأوسط، والقضاعي في مسند الشهاب ، والعسكري في الأمثال، من حديث ابن عمر : "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به" ، وقد تقدم .

وروى ابن عساكر من حديث أبي هريرة : "من كثر ضحكه استخف بحقه، ومن كثرت دعابته ذهبت جلالته، ومن كثر مزاحه ذهب وقاره، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت خطاياه، ومن كثرت خطاياه كانت النار أولى به" . قال: وهو غريب المتن والإسناد، وقد روى الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف جدا من حديث أنس : "الصمت سيد الأخلاق، ومن مزح استخف به" . (ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة) وما فيها من الأهوال، (قال صلى الله عليه وسلم: لو علمتم ما أعلم لبكيتم كثيرا) ، أي: لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، (ولضحكتم قليلا) أي: لتركتم الضحك، أو لم يقع منكم إلا نادرا. قال العراقي : متفق عليه من حديث أنس وعائشة بلفظ: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" . اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد والدارمي والترمذي والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، كلهم من حديث أنس قال: "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت بمثلها قط" . ثم ذكره، وجاء في رواية: "إن تلك كانت خطبة الكسوف" . ورواه أحمد والبخاري والترمذي من حديث أبي هريرة ، ومعنى قوله: "لو تعلمون ما أعلم ، أي: من عظم انتقام الله من أهل الجرائم، وأهوال يوم القيامة وأحوالها ما علمته لما ضحكتم". أصلا إذ القليل بمعنى العديم، على ما يقتضيه السياق; ولأن "لو" حرف امتناع لامتناع، وقيل: معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أعد في الجنة من [ ص: 497 ] النعيم وما حفت به من الححب، لسهل عليكم ما كلفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرات وانكشاف الغطاء يوم العرف لاشتد خوفكم، ولبكيتم كثيرا، فالمعنى منع البكاء لامتناع علمكم بالذي أعلم، وفيه من أنواع البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما بالآخر، وفيه ترجيح الخوف على الرجاء .

وروى الحاكم في الأهوال، وابن عساكر من طريق يوسف بن خباب ، عن مجاهد ، عن أبي ذر رفعه: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب" . قال الحاكم : صحيح على شرطهما، وتعقبه الذهبي وقال: بل هو منقطع .

وروى ابن عساكر من حديث أبي الدرداء : "لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا، ولا شربتم شرابا على شهوة أبدا، ولا دخلتم بيتا تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتبكون على أنفسكم" .

وروى الطبراني والبيهقي والحاكم من حديث أبي الدرداء : "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، لا تدرون تنجون أو لا تنجون" .

وروى الحاكم من حديث أبي هريرة : "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، ولضحكتم قليلا، يظهر النفاق وترتفع الأمانة" . الحديث، وقال: صحيح، وأقره الذهبي ، (وقال رجل لأخيه) وقد رآه يضحك: (أنبئت) أي: أأخبرت (أنك وارد النار؟ قال: نعم) ، وذلك في قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، (قال: فهل أنبئت أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ فما رئي ضاحكا حتى مات) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقال يوسف بن أسباط) الشيباني رحمه الله تعالى: (أقام الحسن) البصري رحمه الله تعالى (ثلاثين سنة لم يضحك) أخرجه أبو نعيم في الحلية، (وقيل: أقام عطاء السليمي أربعين سنة لم يضحك ) ، وكان شديد الخوف، قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو محمد بن حيان ، حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثني أبو عبد الله بن عبيدة ، قال: سمعت غفيرة تقول: لم يرفع عطاء رأسه إلى السماء، ولم يضحك أربعين سنة، فرفع رأسه مرة، ففزع فسقط ففتق فتقا في بطنه ، (ونظر وهيب بن الورد) المكي، قيل: اسمه عبد الوهاب، ووهيب لقب له، (قوما يضحكون في) يوم (عيد فطر، فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين) قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن محمد بن عمر ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن عبد المجيد التميمي ، حدثنا سفيان قال: رأى وهيب قوما يضحكون يوم الفطر، فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان هؤلاء لم يتقبل منهم صيامهم، فما هذا فعل الخائفين .

وحدثنا أبو محمد بن حبان ، حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثني محمد بن يزيد بن خنيس قال: رأيت وهيب بن الورد صلى ذات يوم العيد، فلما انصرف الناس جعلوا يمرون به، فنظر إليهم شزرا، ثم زفر وقال: لئن كان هؤلاء القوم أصبحوا مشفقين أنه قد تقبل منهم شهرهم هذا، لكان ينبغي لهم أن يكونوا مشاغيل بأداء الشكر عما هم فيه، وإن كانت الأخرى لقد كان ينبغي أن يصبحوا أشغل وأشغل .

(وكان عبد الله بن أبي يعلى ) رحمه الله تعالى (يقول: أتضحك ولعل أكفانك خرجت من عند القصار) ، وأنت لا تدري، هكذا هو في سائر النسخ، عن عبد الله بن أبي يعلى ، ولم أجد له ذكرا، وفي نسخة المقاصد للسخاوي : قال عبد الله بن ثعلبة .. فانظره، (وقال ابن عباس ) رضي الله عنه، ( من أذنب ذنبا، وهو يضحك استخفافا بما اقترفه، دخل النار وهو يبكي ) جزاء وفاقا، وقضاء عدلا .

أخرجه أبو نعيم في الحلية عنه مرفوعا، وفيه عمر بن أيوب المزني ، قال الذهبي في الضعفاء: روي عن ضمرة وجماعة، خرجه ابن حبان ، (وقال) أبو عبد الله (محمد بن واسع) البصري رحمه الله تعالى: ( إذا رأيت في الجنة رجلا يبكي ألست تعجب من بكائه؟ قيل: بلى. قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه . فهذه آفة الضحك ، والمذموم منه أن يستغرق ضحكا، والمحمود) منه (التبسم الذي ينكشف فيه السن، ولا يسمع له صوت، كذلك كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: التبسم، وقد ذكر في كتاب أخلاق النبوة: (قال القاسم مولى معاوية) بن أبي سفيان، وكأنه القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي، مولى خالد بن يزيد بن معاوية ، صاحب أبي أمامة ، يغرب كثيرا، قال الذهبي في [ ص: 498 ] الضعفاء: قال أحمد : حدث عنه علي بن مزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قبل القاسم . وقد روى له الأربعة، قال: (أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب، فسلم، فجعل كلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله نفر به) ، ومنع من القرب، (وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون به) مما صنع به قلوصه، (ففعل ذلك مرارا) ، وفي نسخة: ثلاث مرات، (ثم وقصه) أي: ألقاه على رأسه فاندقت عنقه، (فقتله، فقيل: يا رسول الله، إن الأعرابي قد صرعه قلوصه، وقد هلك) أي: مات، (قال: نعم، وأفواهكم ملأى من دمه) ، يشير إلى ما صنعوا من الضحك عليه. قال العراقي : رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق، وهو مرسل .




الخدمات العلمية