الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وهي مكية إلا ثلاث آيات ، وهي قوله : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام [ لقمان : 27 : 29 ] إلى تمام الآيات الثلاث . قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه وأخرج ابن الضريس وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم يستثن ، وحكى القرطبي عن قتادة أنها مكية إلا آيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج النسائي وابن ماجه عن البراء قال : كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات .

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : الم تلك آيات الكتاب قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده ، وبيان مرجع الإشارة أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      و " الحكيم " إما أن يكون بمعنى مفعل ، أو بمعنى فاعل ، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائله .

                                                                                                                                                                                                                                      و هدى ورحمة منصوبان على الحال على قراءة الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة ، وقرأ حمزة " ورحمة " بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف : أي : هو هدى ورحمة ، ويجوز أن يكونا خبر تلك ، والمحسن العامل للحسنات ، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحيح لما سألهجبريل عن الإحسان : فقال أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين عمل المحسنين فقال : الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون والموصول في محل جر على الوصف للمحسنين ، أو في محل رفع ، أو نصب على المدح أو القطع ، وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدة العبادات .

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة ، والمعنى هنا : أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى .

                                                                                                                                                                                                                                      وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1140 ] ومن الناس من يشتري لهو الحديث محل ومن الناس الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة ، وخبره من يشتري لهو الحديث ومن إما موصولة أو موصوفة ، ولهو الحديث كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة ، وكل ما هو منكر ، والإضافة بيانية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد شراء القينات المغنيات والمغنين ، فيكون التقدير : ومن يشتري أهل لهو الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عنه أنه قال : هو الكفر والشرك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : إن أولى ما قيل : في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء ، قال : وهو قول الصحابة والتابعين ، واللام في ليضل عن سبيل الله للتعليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور بضم الياء من " ليضل " أي : ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق ، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش ، وابن أبي إسحاق بفتح الياء أي : ليضل هو في نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : من قرأ بضم الياء ، فمعناه ليضل غيره ، فإذا أضل غيره فقد ضل هو ، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه ليصير أمره إلى الضلال ، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة ، فإنه يصير أمره إلى ذلك ، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد ، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي أبو بكر بن العربي : يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شيء منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له ، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها ، وسميتها [ إبطال دعوى الإجماع ، على تحريم مطلق السماع ] فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومحل قوله : بغير علم النصب على الحال أي : حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه ، أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر ، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض ويتخذها هزوا قرأ الجمهور برفع يتخذها عطفا على يشتري فهو من جملة الصلة ، وقيل : الرفع على الاستئناف ، والضمير المنصوب في يتخذها يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها ، والأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة والكسائي ، والأعمش " ويتخذها " بالنصب عطفا على يضل ، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل ، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم ، والمعنى : أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزوا أي : مهزوءا به ، والسبيل يذكر ويؤنث ، والإشارة بقوله : أولئك لهم عذاب مهين إلى من .

                                                                                                                                                                                                                                      والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها ، والعذاب المهين : هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهينا .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا تتلى عليه آياتنا أي : وإذا تتلى آيات القرآن على هذا المستهزئ ولى مستكبرا أي : أعرض عنها حال كونه مبالغا في التكبر ، وجملة كأن لم يسمعها في محل نصب على الحال : أي كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها ، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع ، وجملة كأن في أذنيه وقرا حال ثانية ، أو بدل من التي قبلها ، أو حال من ضمير يسمعها ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والوقر الثقل ، وقد تقدم بيانه ، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض فبشره بعذاب أليم أي : أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما بين - سبحانه - حال من يعرض عن الآيات بين حال من يقبل عليها ، فقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي : آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها لهم جنات النعيم أي : نعيم الجنات فعكسه للمبالغة ، جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين .

                                                                                                                                                                                                                                      وانتصاب خالدين فيها على الحال وقرأ زيد بن علي " خالدون فيها " على أنه خبر ثان لأن وعد الله حقا هما مصدران الأول مؤكد لنفسه أي : وعد الله وعدا ، والثاني مؤكد لغيره ، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره حق ذلك حقا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه وهو العزيز الذي لا يغلبه غالب الحكيم في كل أفعاله وأقواله .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين - سبحانه - عزته وحكمته بقوله : خلق السماوات بغير عمد ترونها العمد جمع عماد ، وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد ، وترونها في محل جر صفة لعمد فيمكن أن تكون ثم عمد ، ولكن لا ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي : ولا عمد البتة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا أي : ولا عمد ثم وألقى في الأرض رواسي أي : جبالا ثوابت أن تميد بكم في محل نصب على العلة أي : كراهة أن تميد بكم ، والكوفيون يقدرونه لئلا تميد ، والمعنى : أنها خلقت وجعلها مستقرة ثابتة لا تتحرك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها وبث فيها من كل دابة أي : من كل نوع من أنواع الدواب ، وقد تقدم بيان معنى البث وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم أي : أنزلنا من السماء مطرا فأنبتنا فيها بسبب إنزاله من كل زوج أي : من كل صنف ، ووصفه بكونه كريما لحسن لونه وكثرة منافعه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن المراد بذلك الناس ، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة ، واللئيم من يصير إلى النار . قاله الشعبي وغيره ، والأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : هذا إلى ما ذكر في خلق السماوات والأرض ، وهو مبتدأ وخبره خلق الله أي : مخلوقه فأروني ماذا خلق الذين من دونه من آلهتكم التي تعبدونها ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله أو يقاربه ، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال [ ص: 1141 ] الظاهر فقال بل الظالمون في ضلال فقرر ظلمهم أولا وضلالهم ثانيا ، ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور ، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث يعني باطل الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم . وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الفريابي ، وابن جرير وابن مردويه في الآية قال : باطل الحديث . وهو الغناء ونحوه ليضل عن سبيل الله قال : قراءة القرآن وذكر الله ، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال : هو الغناء وأشباهه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال : الجواري الضاربات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي الصهباء قال : سألت عبد الله بن مسعود عن قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال : هو والله الغناء .

                                                                                                                                                                                                                                      ولفظ ابن جرير : هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وأحمد ، والترمذي وابن ماجه ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية ، وفي إسناده عبيد بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الله حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ، ثم قرأ ومن الناس من يشتري لهو الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في السنن عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل وروياه عنه موقوفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الباب أحاديث في كل حديث منها مقال .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال : الرجل يشتري جارية تغني ليلا ونهارا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث : إنما ذلك شراء الرجل اللعب والباطل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن نافع قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق ، فسمع زمارة فوضع إصبعيه في أذنيه ، ثم عدل عن الطريق ، فلم يزل يقول يا نافع أتسمع ؟ قلت لا ، فأخرج أصبعيه من أذنيه وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صنع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة : خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية