الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام ]

                                                      إذا علمت هذا ، فإن دخلت الألف واللام على الجمع أفادت الاستغراق . فإن تقدم عهد ودلت قرينة على قصده حمل عليه بلا خلاف ، وكان ذلك قرينة التخصيص ، ومنه ما إذا سبقه تنكير ، وظهر ترتب التعريف عليه ، لكن القاضي عبد الوهاب في " الإفادة " قال : اختلف في الألف واللام على ثلاثة مذاهب .

                                                      أحدها : أنه يحمل على معهود إن كان ، فإن لم يكن حمل على الجنس ، وهو قول أكثر الفقهاء .

                                                      والثاني : عكسه : أنها تحمل على الجنس إلا أن يقوم دليل على العهد .

                                                      الثالث : أنه يحمل عند فقد العهد على الجنس من غير تعميم . وفيه خلاف آخر ، وهو أنه لا بد من ، عهد ، وإلا لم يصح دخولها . انتهى .

                                                      وإن لم يسبقه عهد ، فهي للعموم عند معظم العلماء ، قاله ابن برهان ، وقاله ابن الصباغ : إنه إجماع أصحابنا ، وحكي عن الجبائي أنها لا تقتضي [ ص: 118 ] الاستغراق ، قال ابن السمعاني : سواء جمع السلامة والتكسير ، ، كاقتلوا المشركين ، واعمروا مساجد الله ، وقال سليم الرازي في " التقريب " : سواء المشتق وغيره ، كالمسلمين والرجال . وقال غيره : سواء كان للقلة كالمسلمين والمسلمات ، أو للكثرة كالعباد والرجال ، وحكاه أبو الحسين البصري في " المعتمد " عن أبي علي الجبائي وجماعة الفقهاء ، وحكي عن أبي هاشم أنه يفيد الجنس لا الاستغراق ، وحكاه صاحب " الميزان " عن أبي علي الفارسي وأبي هاشم . قال : وحكي عنه أنه فرق بين المفرد والجمع ، فقال : وفي المفرد يصرف إلى مطلق الجنس من غير استغراق إلا بدليل .

                                                      وحكاه المازري عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني من أصحابنا ، وهو غريب ، قال : وقالوا في قوله تعالى : { وإن الفجار لفي جحيم } إنه يستوعب من حيث دخول الألف واللام .

                                                      ثم أنكر إلكيا هذا وقال : الألف واللام معناها في لسان العرب تعريف العهد لا غير ، هكذا قال سيبويه ، وأن الألف الأصل لما كانت ساكنة ، ولم يتوصل إلى النطق بها ، وأن حرف التعريف هو اللام ، فثبت أنه لا يصير عاما ومستوعبا بدخول الألف واللام ، وقد كان ولم يكن مستوعبا قبل دخولها ، ولو كان اللام مفيدا للاستيعاب لما صح دخوله عن الأسماء المفردة ، لأن معناه لا يتغير بكون الاسم مفردا أو مجموعا ، كما لا يتغير معنى سائر الحروف .

                                                      قال : ولذلك زعم المحققون أن عموم قوله تعالى : { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني } في معناه ، وهو ترتب الحكم على الوصف بفاء التعليل ، وهو أقرب من ادعاء العموم من لفظه . ولعل إلكيا بنى هذا على قول أرباب الخصوص ، فإنه قال بعد ذلك : الصحيح أن هذه الألفاظ للعموم . [ ص: 119 ]

                                                      ونبه أبو الحسين على فائدة ترفع الخلاف ، وهي أن أبا هاشم وإن لم يجعله مستغرقا من جهة اللفظ ، فهو عنده عام من جهة المعنى إن صلح له ، كقوله تعالى : { وإن الفجار لفي جحيم } ، فإنه يفيد أنهم في الجحيم لأجل فجورهم ، فوجب أن يكون كل فاجر كذلك ، لأنه خرج مخرج الزجر انتهى . هذا كله إذا قام الدليل على أنه لم يرد العهد ، فإن أشكل الحال واحتمل كونها للعهد أو الاستغراق أو الجنس ، فلم يصرحوا فيها بنقل صريح .

                                                      ويخرج من كلامهم فيها ثلاثة مذاهب ، وظاهر كلام بعضهم أنها تحمل على العهد ، وبه صرح ابن مالك من النحويين ، وظاهر كلام أكثر الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق ، لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه ، ونقله ابن القشيري عن المعظم ، وصاحب " الميزان " عن أبي بكر بن السراج النحوي ، فقال : إذا تعارضت جهتا العهد والجنس يصرف إلى الجنس ، وهو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع . قالا : لأن الجنس يدخل تحته العهد ، والعهد لا يدخل تحته الجنس .

                                                      والثالث : أنه مجمل ، لأن عمومه ليس من صيغته ، بل من قرينة نفي المعهود ; فيتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها ، وهو قول إمام الحرمين ، وتبعه ابن القشيري في كتابه ، وقال صاحبه إلكيا الهراسي : إنه الصحيح ، لأن الألف واللام للتعريف ، وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية ، فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليها . قلت : وما ذكره إمام الحرمين قد حكاه الأستاذ أبو إسحاق في كتابه عن بعض أصحابنا ، وقال قبله : إن المذهب أنه عام ، ولا يصار إلى غير العموم إلا بدليل .

                                                      ويخرج من كلام ابن دقيق العيد مذهب رابع ، فإنه قال في " شرح العنوان " [ ص: 120 ] وعندنا أن هذا مختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام ، ويعرف ذلك بقرائن ودلائل منه .

                                                      وأصل الخلاف أن الألف واللام للعموم عند عدم العهد ، وليست للعموم عند قرينة العهد ، لكن هل الأصل فيها العموم حتى يقوم دليل على خلافه ، أو الأصل أنها موضوعة للعهد ، حتى يقوم دليل على عدم إرادته فيه ؟

                                                      وكلام الأصوليين فيه مضطرب ، ومن أخذ بظواهر عباراتهم حكى في ذلك قولين ، وقد صرح بها بعض متأخري الحنفية ، فقال : الأصل هو للعهد الخارجي لأنه حقيقة التعيين ، وكمال التمييز ، ثم الاستغراق لأن الحكم على نفس الحقيقة بدون اعتبار الأفراد قليل الاستعمال جدا ، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية ، فالاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصا في الجمعية ، هذا ما عليه المحققون .

                                                      وقيل : العهد الذهني مقدم على الاستغراق بناء على أن البعض متيقن ، وهذا معارض ، فإن الاستغراق أعم فائدة وأكثر استعمالا في الشرع ، وأحوط في أكثر الأحكام ، أعني الإيجاب والندب والتحريم والكراهة ، وأن البعض أحوط في الإباحة ومنقوض بثبوت الماهية ، فإنه لا يوجد بدون الماهية ، وقد جعلوه متأخرا عن الاستغراق بها على أنه لا يفيد فائدة جديدة زائدة على ما يفيد الاسم بدون اللام .

                                                      ويظهر أثر هذا الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة عهد ، في أن العهد مراد أم لا ، هل يحمل على العموم أم لا ؟ [ ص: 121 ] وذكر الماوردي في كتاب " الأيمان " من " الحاوي " عند الكلام فيما " إذا حلف لا يشرب ماء النهر " أن الألف واللام يستعملان تارة للجنس ، وللعهد أخرى ، وأنه حقيقة فيهما ، فإن قيل : إذا كانت القرينة تصرف إلى العهد ، وتمنع من الحمل على العموم ، فهلا جعلتم العام بالألف واللام مصروفا إلى العهد بقرينة السبب الخاص ، وقلتم : إن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ؟ أجيب بأن تقدم السبب الخاص قرينة في أنه لا يراد لا أن غيره ليس بمراد ، فنحن نعلمه بهذه القرينة ونقول : دلالة هذا العام على محل السبب قطعية ، وعلى غيره ظنية ، إذ ليس في السبب ما يثبتها ولا ما ينفيها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية