الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل : في الحنث في اليمين

ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور ، مثل قوله : " إن دخلت الدار فلله علي حجة أو عتق رقبة " أو نحو ذلك ، فحنث بظاهر قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وبقوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم قال : فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون [ ص: 116 ] المنذور بعينه . وليس هذا كما ظن هذا القائل ؛ وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين ، لقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقال تعالى : يوفون بالنذر وقال تعالى : أوفوا بالعقود وقال تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به وكان قوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم في اليمين المعقودة بالله عز وجل ، وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها . قوله تعالى : واحفظوا أيمانكم فقال قائلون : معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية . وقال آخرون : أقلوا من الأيمان ، على نحو قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر :

قليل الألايا حافظ ليمينه إذا بدرت منه الألية برت

وقال آخرون : معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها ؛ لأن حفظ الشيء هو مراعاته ؛ وهذا هو الصحيح ، فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فأمره بالحنث فيها ؛ وقد قال الله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا الآية ؛ روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة ، وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه ، فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ، ففعل ذلك أبو بكر .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه . فثبت بذلك أنه غير منهي عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية ، فغير جائز أن يكون معنى قوله : واحفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث . وأما من قال : إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت ؛ فقوله مرذول ساقط ؛ لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين ، كما لا يجوز أن يقال : " احفظ مالك " بمعنى أن لا تكسبه ؛ ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة [ ص: 117 ] الحنث لأداء الكفارة ؛ لأنه قال

" قليل الألايا حافظ ليمينه

" فأخبر بديا بقلة أيمانه ، ثم قال : " حافظ ليمينه " ومعناه أنه مراع لها ليؤدي كفارتها عند الحنث ؛ ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكر ، فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث .

التالي السابق


الخدمات العلمية