قاعدة في
ألفاظ يظن بها الترادف وليست منه .
ولهذا وزعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر ، فعلى المفسر مراعاة مجاري الاستعمالات ، والقطع بعدم الترادف ما أمكن ، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ، ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب ، وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد .
فمن ذلك : الخوف والخشية ، لا يكاد اللغوي يفرق بينهما ، ولا شك أن الخشية أعلى من الخوف ، وهي أشد الخوف ، فإنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية ، إذا كانت يابسة ، وذلك فوات بالكلية ، والخوف من قولهم : ناقة خوفاء إذا كان بها داء ، وذلك نقص وليس بفوات ، ومن ثمة خصت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) ( الرعد : 31 ) .
وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي ، وإن كان الخاشي قويا ، والخوف يكون من ضعف الخائف ، وإن كان المخوف أمرا يسيرا ، ويدل على ذلك أن الخاء ، والشين ، والياء في تقاليبها تدل على العظمة ، قالوا : شيخ للسيد الكبير ، والخيش لما عظم من الكتان ، والخاء والواو والفاء في تقاليبها تدل على الضعف ، وانظر إلى الخوف لما
[ ص: 69 ] فيه من ضعف القوة ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) فإن الخوف من الله لعظمته يخشاه كل أحد كيف كانت حاله ، وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب ، وحاسب نفسه قبل أن يحاسب .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ( فاطر : 28 ) وقال لموسى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10لا تخف ) ( النمل : 10 ) أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه بسبب فرعون .
فإن قيل : ورد (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يخافون ربهم ) ؟
قيل : الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف ، فيصح أن يقول : يخشى ربه لعظمته ، ويخاف ربه أي لضعفه بالنسبة إلى الله تعالى .
وفيه لطيفة ، وهي أن الله تعالى لما ذكر الملائكة ، وهم أقوياء ، ذكر صفتهم بين يديه ، فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) ( النحل : 50 ) فبين أنهم عند الله ضعفاء ، ولما ذكر المؤمنين من الناس ، وهم ضعفاء ، لا حاجة إلى بيان ضعفهم ، ذكر ما يدل على عظمة الله تعالى ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=49يخشون ربهم ) ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة إلى قوة الله تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50ربهم من فوقهم ) والمراد فوقية بالعظمة .
ومن ذلك الشح والبخل ، والشح هو البخل الشديد ، وفرق العسكري بين البخل ، والضن ، بأن الضن أصله أن يكون بالعواري ، والبخل بالهبات ، ولهذا يقال : هو ضنين بعلمه ، ولا يقال : هو بخيل ، لأن العلم أشبه بالعارية منه بالهبة ، لأن الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العارية ، ولهذا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=24وما هو على الغيب بضنين ) ( التكوير : 24 ) ولم يقل بـ ( بخيل ) .
ومن ذلك الغبطة ، والمنافسة ، كلاهما محمود قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
[ ص: 70 ] ( المطففين : 26 ) وقال صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018716لا حسد إلا في اثنتين وأراد الغبطة ، وهي تمني مثل ما له من غير أن يغتم لنيل غيره ، فإن انضم إلى ذلك الجد ، والتشمير إلى مثله ، أو خير منه فهو منافسة .
وقريب منها الحسد ، والحقد ، فالحسد تمني زوال النعمة من مستحقها ، وربما كان مع سعي في إزالتها ، كذا ذكر الغزالي هذا القيد أعني الاستحقاق ، وهو يقتضي أن تمني زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا .
ومن ذلك السبيل والطريق ، وقد كثر استعمال السبيل في القرآن حتى إنه وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا ، أولها قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) ( البقرة : 273 ) ولم يقع ذكر الطريق فيه إلا في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=168ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم ) ( النساء : 168 ، 169 ) ثم إن اسم السبيل أغلب وقوعا في الخير ، ولا يكاد اسم الطريق يراد به الخير إلا مقترنا بوصف ، أو بإضافة ، مما يخلصه لذلك كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) ( الأحقاف : 30 ) .
[ ص: 71 ] ومن ذلك " جاء " و " أتى " يستويان في الماضي ، و ( يأتي ) أخف من ( يجيء ) ، وكذا في الأمر جيئوا بمثله ، أثقل من فأتوا بمثله ، ولم يذكر الله إلا " يأتي " ، ويأتون ، وفي الأمر " فأت " " فأتنا " ، " فأتوا " ، لأن إسكان الهمزة ثقيل لتحريك حروف المد ، واللين ، تقول " جئ " أثقل من " ائت " .
وأما في الماضي ففيه لطيفة ، وهي أن ( جاء ) يقال في الجواهر ، والأعيان ، و ( أتى ) في المعاني ، والأزمان ، وفي مقابلتها " ذهب " و " مضى " ، يقال " ذهب " في الأعيان ، ومضى في الأزمان ، ولهذا يقال : حكم فلان ماض ، ولا يقال : ذاهب لأن الحكم ليس من الأعيان .
وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17ذهب الله بنورهم ) ( البقرة : 17 ) ولم يقل : مضى لأنه يضرب له المثل بالمعاني المفتقرة إلى الحال ، ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها ، فذكر الله تعالى جاء في موضع الأعيان في الماضي ، وأتى في موضع المعاني ، والأزمان .
وانظر قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=72ولمن جاء به حمل بعير ) ( يوسف : 72 ) لأن الصواع عين (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89ولما جاءهم كتاب ) ( البقرة : 89 ) لأنه عين ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=23وجيء يومئذ بجهنم ) ( الفجر : 23 ) لأنها عين .
وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=61فإذا جاء أجلهم ) ( النحل : 61 ) فلأن الأجل كالمشاهد ، ولهذا يقال : حضرته الوفاة ، وحضره الموت ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=63بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) ( الحجر : 63 ) أي العذاب ، لأنه مرئي يشاهدونه ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=64وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ) ( الحجر : 64 ) حيث لم يكن الحق مرئيا .
فإن قيل : فقد قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) ( يونس : 24 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=58ولما جاء أمرنا ) ( هود : 58 ) فجعل الأمر آتيا وجائيا .
قلنا : هذا يؤيد ما ذكرناه ، فإنه لما قال : " جاء " وهم ممن يرى الأشياء قال : جاء أي عيانا ، ولما كان الروع لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا يرى ، قال : " أتاها " ، ويؤيد هذا : أن " جاء "
[ ص: 72 ] يعدى بالهمزة ، ويقال : أجاءه ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=23فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) ( مريم : 23 ) ولم يرد " أتاه " بمعنى " ائت " من الإتيان ، لأن المعنى لا استقلال له حتى يأتي بنفسه .
ومن ذلك الخطف والتخطف ، لا يفرق الأديب بينهما ، والله تعالى فرق بينهما ، فتقول : خطف بالكسر لما تكرر ، ويكون من شأن الخاطف الخطف ، و " خطف " بالفتح حيث يقع الخطف من غير من يكون من شأنه الخطف بكلفة ، وهو أبعد من " خطف " بالفتح ، فإنه يكون لمن اتفق له على تكلف ، ولم يكن متوقعا منه ، ويدل عليه أن " فعل " بالكسر لا يتكرر كعلم ، وسمع ، و " فعل " ، لا يشترط فيه ذلك ، كـ " قتل " ، وضرب ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=10إلا من خطف الخطفة ) ( الصافات : 10 ) فإن شغل الشيطان ذلك ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=31فتخطفه الطير ) ( الحج : 31 ) لأن من شأنه ذلك .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=26تخافون أن يتخطفكم الناس ) ( الأنفال : 26 ) فإن الناس لا تخطف الناس إلا على تكلف . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67ويتخطف الناس من حولهم ) ( العنكبوت : 67 ) . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=20يكاد البرق يخطف أبصارهم ) ( البقرة : 20 ) لأن البرق يخاف منه خطف البصر إذا قوي .
ومن ذلك " مد " ، و " أمد " ، قال
الراغب : أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=22وأمددناهم بفاكهة ) ( الطور : 22 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=30وظل ممدود ) ( الواقعة : 30 ) والمد في المكروه (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=79ونمد له من العذاب مدا ) ( مريم : 79 ) .
ومن ذلك " سقى " ، و " أسقى " ، وقد سبق .
ومن ذلك " عمل " و " فعل " ، والفرق بينهما أن العمل أخص من الفعل ، كل عمل فعل ، ولا ينعكس ، ولهذا جعل النحاة الفعل في مقابلة الاسم ، لأنه أعم ، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد ، لأنه " فعل " وباب " فعل " لما تكرر .
[ ص: 73 ] وقد اعتبره الله تعالى ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يعملون له ما يشاء ) ( سبأ : 13 ) حيث كان فعلهم بزمان .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50ويفعلون ما يؤمرون ) ( النحل : 50 ) حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين ، فينقلون المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=71مما عملت أيدينا ) ( يس : 71 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=35وما عملته أيديهم ) ( يس : 35 ) فإن خلق الأنعام ، والثمار ، والزروع بامتداد ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=105&ayano=1كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) ( الفيل : 1 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=6ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) ( الفجر : 6 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=45وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) ( إبراهيم : 45 ) فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=25وعملوا الصالحات ) ( البقرة : 25 ) حيث كان المقصود المثابرة عليها ، لا الإتيان بها مرة . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=77وافعلوا الخير ) ( الحج : 77 ) بمعنى سارعوا ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=148فاستبقوا الخيرات ) ( البقرة : 148 ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=4والذين هم للزكاة فاعلون ) ( المؤمنون : 4 ) أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير ، فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع .
ومن ذلك " القعود " و " الجلوس " ، إن القعود لا يكون معه لبثة ، والجلوس لا يعتبر فيه ذلك ، ولهذا تقول : قواعد البيت ، ولا تقول : جوالسه ، لأن مقصودك ما فيه ثبات ، والقاف والعين والدال كيف تقلبت دلت على اللبث ، والقعدة بقاء على حالة ، والدقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء ، وله لبث طويل ، وأما الجيم واللام والسين فهي للحركة ، منه السجل للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده ، ولهذا قالوا في " قعد " : يقعد بضم الوسط ، وقالوا : " جلس " يجلس بكسره فاختاروا الثقيل لما هو أثبت .
إذا ثبت هذا فنقول : قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=121مقاعد للقتال ) ( آل عمران : 121 ) فإن الثبات هو المقصود . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46اقعدوا مع القاعدين ) ( التوبة : 46 ) أي : لا زوال لكم ،
[ ص: 74 ] ولا حركة عليكم بعد هذا ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=55في مقعد صدق ) ( القمر : 55 ) ولم يقل : مجلس ، إذ لا زوال عنه .
وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس ) ( المجادلة : 11 ) إشارة إلى أنه يجلس فيه زمانا يسيرا ليس بمقعد ، فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا ، لأنه لا كلفة فيه لقصره ، ولهذا لا يقال : قعيد الملوك ، وإنما يقال : جليسهم ، لأن مجالسة الملوك يستحب فيها التخفيف ، والقعيدة تقال للمرأة لأنها تلبث في مكانها .
ومن ذلك التمام ، والكمال ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة : 3 ) والعطف يقتضي المغايرة ، فقيل : الإتمام لإزالة نقصان الأصل ، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ، ولهذا كان قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تلك عشرة كاملة ) ( البقرة : 196 ) أحسن من " تامة " ، فإن التمام من العدد قد علم ، وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها .
وقيل : " تم " يشعر بحصول نقص قبله ، وكمل لا يشعر بذلك ، ومن هذا قولهم : رجل كامل إذا جمع خصال الخير ، ورجل تام إذا كان غير ناقص الطول .
وقال
العسكري : الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به ، والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ، ولهذا يقولون : القافية تمام البيت ، ولا يقولون كماله ، ويقولون البيت بكماله .
ومن ذلك الضياء ، والنور .
قَاعِدَةٌ فِي
أَلْفَاظٍ يُظَنُّ بِهَا التَّرَادُفُ وَلَيْسَتْ مِنْهُ .
وَلِهَذَا وُزِّعَتْ بِحَسَبِ الْمَقَامَاتِ فَلَا يَقُومُ مُرَادِفُهَا فِيمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مَقَامَ الْآخَرِ ، فَعَلَى الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةُ مَجَارِيَ الِاسْتِعْمَالَاتِ ، وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّرَادُفِ مَا أَمْكَنَ ، فَإِنَّ لِلتَّرْكِيبِ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْإِفْرَادِ ، وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وُقُوعَ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْإِفْرَادِ .
فَمِنْ ذَلِكَ : الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ ، لَا يَكَادُ اللُّغَوِيُّ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَشْيَةَ أَعْلَى مِنَ الْخَوْفِ ، وَهِيَ أَشَدُّ الْخَوْفِ ، فَإِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : شَجَرَةٌ خَشِيَّةٌ ، إِذَا كَانَتْ يَابِسَةً ، وَذَلِكَ فَوَاتٌ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَالْخَوْفُ مِنْ قَوْلِهِمْ : نَاقَةٌ خَوْفَاءُ إِذَا كَانَ بِهَا دَاءٌ ، وَذَلِكَ نَقْصٌ وَلَيْسَ بِفَوَاتٍ ، وَمِنْ ثَمَّةَ خُصَّتِ الْخَشْيَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) ( الرَّعْدِ : 31 ) .
وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِأَنَّ الْخَشْيَةَ تَكُونُ مِنْ عِظَمِ الْمَخْشِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْخَاشِي قَوِيًّا ، وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ الْخَائِفِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَوِّفُ أَمْرًا يَسِيرًا ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَاءَ ، وَالشِّينَ ، وَالْيَاءَ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الْعَظَمَةِ ، قَالُوا : شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ الْكَبِيرِ ، وَالْخَيْشُ لِمَا عَظُمَ مِنَ الْكَتَّانِ ، وَالْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ فِي تَقَالِيبِهَا تَدُلُّ عَلَى الضَّعْفِ ، وَانْظُرْ إِلَى الْخَوْفِ لِمَا
[ ص: 69 ] فِيهِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَّةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=21وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) فَإِنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ ، وَسُوءُ الْحِسَابِ رُبَّمَا لَا يَخَافُهُ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحِسَابِ ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فَاطِرٍ : 28 ) وَقَالَ لِمُوسَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10لَا تَخَفْ ) ( النَّمْلِ : 10 ) أَيْ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ مِنْ ضَعْفِ نَفْسِكِ مَا تَخَافُ مِنْهُ بِسَبَبِ فِرْعَوْنَ .
فَإِنْ قِيلَ : وَرَدَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ) ؟
قِيلَ : الْخَاشِي مِنَ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ اللَّهِ ضَعِيفٌ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : يَخْشَى رَبَّهُ لِعَظَمَتِهِ ، وَيَخَافُ رَبَّهُ أَيْ لِضَعْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ ، وَهُمْ أَقْوِيَاءُ ، ذَكَرَ صِفَتَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( النَّحْلِ : 50 ) فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ضُعَفَاءُ ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّاسِ ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ ، لَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ ضَعْفِهِمْ ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=49يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) وَلَمَّا ذَكَرَ ضَعْفَ الْمَلَائِكَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) وَالْمُرَادُ فَوْقِيَّةٌ بِالْعَظَمَةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ وَالْبُخْلُ ، وَالشُّحُّ هُوَ الْبُخْلُ الشَّدِيدُ ، وَفَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْبُخْلِ ، وَالضَّنِّ ، بِأَنَّ الضَّنِّ أَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَوَارِيِّ ، وَالْبُخْلُ بِالْهِبَاتِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ : هُوَ ضَنِينٌ بِعِلْمِهِ ، وَلَا يُقَالُ : هُوَ بَخِيلٌ ، لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْبَهُ بِالْعَارِيَّةِ مِنْهُ بِالْهِبَةِ ، لِأَنَّ الْوَاهِبَ إِذَا وَهَبَ شَيْئًا خَرَجَ عَنْ مُلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=24وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ) ( التَّكْوِيرِ : 24 ) وَلَمْ يَقُلْ بِـ ( بَخِيلٍ ) .
وَمِنْ ذَلِكَ الْغِبْطَةُ ، وَالْمُنَافَسَةُ ، كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=83&ayano=26وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )
[ ص: 70 ] ( الْمُطَفِّفِينَ : 26 ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018716لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ وَأَرَادَ الْغِبْطَةَ ، وَهِيَ تَمَنِّي مِثْلِ مَا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْتَمَّ لِنَيْلِ غَيْرِهِ ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجِدُّ ، وَالتَّشْمِيرُ إِلَى مِثْلِهِ ، أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ فَهُوَ مُنَافَسَةٌ .
وَقَرِيبٌ مِنْهَا الْحَسَدُ ، وَالْحِقْدُ ، فَالْحَسَدُ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ مِنْ مُسْتَحِقِّهَا ، وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ سَعْيٍ فِي إِزَالَتِهَا ، كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَيْدَ أَعْنِي الِاسْتِحْقَاقَ ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَمَنِّيَ زَوَالِهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لَا يَكُونُ حَسَدًا .
وَمِنْ ذَلِكَ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ السَّبِيلِ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى إِنَّهُ وَقَعَ فِي الرُّبْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ مَوْضِعًا ، أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=273لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ( الْبَقَرَةِ : 273 ) وَلَمْ يَقَعْ ذِكْرُ الطَّرِيقِ فِيهِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=168وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) ( النِّسَاءِ : 168 ، 169 ) ثُمَّ إِنَّ اسْمَ السَّبِيلِ أَغْلَبُ وُقُوعًا فِي الْخَيْرِ ، وَلَا يَكَادُ اسْمُ الطَّرِيقِ يُرَادُ بِهِ الْخَيْرُ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِوَصْفٍ ، أَوْ بِإِضَافَةٍ ، مِمَّا يُخَلِّصُهُ لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=30إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( الْأَحْقَافِ : 30 ) .
[ ص: 71 ] وَمِنْ ذَلِكَ " جَاءَ " وَ " أَتَى " يَسْتَوِيَانِ فِي الْمَاضِي ، وَ ( يَأْتِي ) أَخَفُّ مِنْ ( يَجِيءُ ) ، وَكَذَا فِي الْأَمْرِ جِيْئُوا بِمِثْلِهِ ، أَثْقَلُ مِنْ فَأْتُوا بِمِثْلِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ إِلَّا " يَأْتِي " ، وَيَأْتُونَ ، وَفِي الْأَمْرِ " فَأْتِ " " فَأْتِنَا " ، " فَأْتُوا " ، لِأَنَّ إِسْكَانَ الْهَمْزَةِ ثَقِيلٌ لِتَحْرِيكِ حُرُوفِ الْمَدِّ ، وَاللِّينِ ، تَقُولُ " جِئْ " أَثْقَلُ مِنِ " ائْتِ " .
وَأَمَّا فِي الْمَاضِي فَفِيهِ لَطِيفَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ ( جَاءَ ) يُقَالُ فِي الْجَوَاهِرِ ، وَالْأَعْيَانِ ، وَ ( أَتَى ) فِي الْمَعَانِي ، وَالْأَزْمَانِ ، وَفِي مُقَابَلَتِهَا " ذَهَبَ " وَ " مَضَى " ، يُقَالُ " ذَهَبَ " فِي الْأَعْيَانِ ، وَمَضَى فِي الْأَزْمَانِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ : حُكْمُ فُلَانٍ مَاضٍ ، وَلَا يُقَالُ : ذَاهِبٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْيَانِ .
وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=17ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) ( الْبَقَرَةِ : 17 ) وَلَمْ يَقُلْ : مَضَى لِأَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْمَعَانِي الْمُفْتَقِرَةِ إِلَى الْحَالِ ، وَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِأَنْفُسِهَا ، فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى جَاءَ فِي مَوْضِعِ الْأَعْيَانِ فِي الْمَاضِي ، وَأَتَى فِي مَوْضِعِ الْمَعَانِي ، وَالْأَزْمَانِ .
وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=72وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) ( يُوسُفَ : 72 ) لِأَنَّ الصُّوَاعَ عَيْنٌ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=89وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ ) ( الْبَقَرَةِ : 89 ) لِأَنَّهُ عَيْنٌ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=23وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) ( الْفَجْرِ : 23 ) لِأَنَّهَا عَيْنٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=61فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) ( النَّحْلِ : 61 ) فَلِأَنَّ الْأَجَلَ كَالْمُشَاهَدِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ : حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=63بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( الْحِجْرِ : 63 ) أَيِ الْعَذَابِ ، لِأَنَّهُ مَرْئِيٌّ يُشَاهِدُونَهُ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=64وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) ( الْحِجْرِ : 64 ) حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ مَرْئِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ) ( يُونُسَ : 24 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=58وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) ( هُودٍ : 58 ) فَجُعِلَ الْأَمْرُ آتِيًا وَجَائِيًا .
قُلْنَا : هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ : " جَاءَ " وَهُمْ مِمَّنْ يَرَى الْأَشْيَاءَ قَالَ : جَاءَ أَيْ عِيَانًا ، وَلَمَّا كَانَ الرَّوْعُ لَا يُبْصَرُ ، وَلَا يُسْمَعُ ، وَلَا يُرَى ، قَالَ : " أَتَاهَا " ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّ " جَاءَ "
[ ص: 72 ] يُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ ، وَيُقَالُ : أَجَاءَهُ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=23فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) ( مَرْيَمَ : 23 ) وَلَمْ يَرِدْ " أَتَاهُ " بِمَعْنَى " ائْتِ " مِنَ الْإِتْيَانِ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفْسِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْخَطْفُ وَالتَّخَطُّفُ ، لَا يُفَرِّقُ الْأَدِيبُ بَيْنَهُمَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَتَقُولُ : خَطِفَ بِالْكَسْرِ لِمَا تَكَرَّرَ ، وَيَكُونُ مِنْ شَأْنِ الْخَاطِفِ الْخَطْفُ ، وَ " خَطَفَ " بِالْفَتْحِ حَيْثُ يَقَعُ الْخَطْفُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يَكُونُ مِنْ شَأْنِهِ الْخَطْفُ بِكُلْفَةٍ ، وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ " خَطَفَ " بِالْفَتْحِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنِ اتَّفَقَ لَهُ عَلَى تَكَلُّفٍ ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا مِنْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ " فَعِلَ " بِالْكَسْرِ لَا يَتَكَرَّرُ كَعَلِمَ ، وَسَمِعَ ، وَ " فَعِلَ " ، لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ ، كَـ " قَتَلَ " ، وَضَرَبَ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=10إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ) ( الصَّافَّاتِ : 10 ) فَإِنَّ شُغْلَ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=31فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) ( الْحَجِّ : 31 ) لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=26تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ) ( الْأَنْفَالِ : 26 ) فَإِنَّ النَّاسَ لَا تَخْطِفُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى تَكَلُّفٍ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=67وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) ( الْعَنْكَبُوتِ : 67 ) . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=20يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) ( الْبَقَرَةِ : 20 ) لِأَنَّ الْبَرْقَ يُخَافُ مِنْهُ خَطْفُ الْبَصَرِ إِذَا قَوِيَ .
وَمِنْ ذَلِكَ " مَدَّ " ، وَ " أَمَدَّ " ، قَالَ
الرَّاغِبُ : أَكْثَرُ مَا جَاءَ الْإِمْدَادُ فِي الْمَحْبُوبِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=22وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ ) ( الطُّورِ : 22 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=30وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) ( الْوَاقِعَةِ : 30 ) وَالْمَدُّ فِي الْمَكْرُوهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=79وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) ( مَرْيَمَ : 79 ) .
وَمِنْ ذَلِكَ " سَقَى " ، وَ " أَسْقَى " ، وَقَدْ سَبَقَ .
وَمِنْ ذَلِكَ " عَمِلَ " وَ " فَعَلَ " ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ ، كُلُّ عَمَلٍ فِعْلٌ ، وَلَا يَنْعَكِسُ ، وَلِهَذَا جَعَلَ النُّحَاةُ الْفِعْلَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْمِ ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ ، وَالْعَمَلُ مِنَ الْفِعْلِ مَا كَانَ مَعَ امْتِدَادٍ ، لِأَنَّهُ " فَعِلَ " وَبَابُ " فَعِلَ " لِمَا تَكَرَّرَ .
[ ص: 73 ] وَقَدِ اعْتَبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ ) ( سَبَأٍ : 13 ) حَيْثُ كَانَ فِعْلُهُمْ بِزَمَانٍ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=50وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( النَّحْلِ : 50 ) حَيْثُ يَأْتُونَ بِمَا يُؤْمَرُونَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَيَنْقُلُونَ الْمُدُنَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ مِنْ مَكَانِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=71مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) ( يس : 71 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=35وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) ( يس : 35 ) فَإِنَّ خَلْقَ الْأَنْعَامِ ، وَالثِّمَارِ ، وَالزُّرُوعِ بِامْتِدَادٍ ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=105&ayano=1كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ( الْفِيلِ : 1 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=6أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ) ( الْفَجْرِ : 6 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=45وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) ( إِبْرَاهِيمَ : 45 ) فَإِنَّهَا إِهْلَاكَاتٌ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بُطْءٍ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=25وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ( الْبَقَرَةِ : 25 ) حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُثَابَرَةَ عَلَيْهَا ، لَا الْإِتْيَانَ بِهَا مَرَّةً . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=77وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) ( الْحَجِّ : 77 ) بِمَعْنَى سَارِعُوا ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=148فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) ( الْبَقَرَةِ : 148 ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=4وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) ( الْمُؤْمِنُونَ : 4 ) أَيْ يَأْتُونَ بِهَا عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ تَوَانٍ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ ، فَهَذَا هُوَ الْفَصَاحَةُ فِي اخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ " الْقُعُودُ " وَ " الْجُلُوسُ " ، إِنَّ الْقُعُودَ لَا يَكُونُ مَعَهُ لُبْثَةٌ ، وَالْجُلُوسَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا تَقُولُ : قَوَاعِدُ الْبَيْتِ ، وَلَا تَقُولُ : جَوَالِسُهُ ، لِأَنَّ مَقْصُودَكَ مَا فِيهِ ثَبَاتٌ ، وَالْقَافُ وَالْعَيْنُ وَالدَّالُ كَيْفَ تَقَلَّبَتْ دَلَّتْ عَلَى اللُّبْثِ ، وَالْقَعْدَةُ بَقَاءٌ عَلَى حَالَةٍ ، وَالدَّقْعَاءُ لِلتُّرَابِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْقَى فِي مَسِيلِ الْمَاءِ ، وَلَهُ لُبْثٌ طَوِيلٌ ، وَأَمَّا الْجِيمُ وَاللَّامُ وَالسِّينُ فَهِيَ لِلْحَرَكَةِ ، مِنْهُ السِّجِلُّ لِلْكِتَابِ يُطْوَى لَهُ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي " قَعَدَ " : يَقْعُدُ بِضَمِّ الْوَسَطِ ، وَقَالُوا : " جَلَسَ " يَجْلِسُ بِكَسْرِهِ فَاخْتَارُوا الثَّقِيلَ لِمَا هُوَ أَثْبَتُ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=121مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ) ( آلِ عِمْرَانَ : 121 ) فَإِنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الْمَقْصُودُ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=46اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التَّوْبَةِ : 46 ) أَيْ : لَا زَوَالَ لَكُمْ ،
[ ص: 74 ] وَلَا حَرَكَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ هَذَا ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=55فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ) ( الْقَمَرِ : 55 ) وَلَمْ يَقُلْ : مَجْلِسٌ ، إِذْ لَا زَوَالَ عَنْهُ .
وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=11إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ ) ( الْمُجَادَلَةِ : 11 ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَسُ فِيهِ زَمَانًا يَسِيرًا لَيْسَ بِمَقْعَدٍ ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْكُمُ التَّفَسُّحُ فَافْسَحُوا ، لِأَنَّهُ لَا كُلْفَةَ فِيهِ لِقِصَرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : قَعِيدُ الْمُلُوكِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ : جَلِيسُهُمْ ، لِأَنَّ مُجَالَسَةُ الْمُلُوكِ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّخْفِيفُ ، وَالْقَعِيدَةُ تُقَالُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تَلْبَثُ فِي مَكَانِهَا .
وَمِنْ ذَلِكَ التَّمَامُ ، وَالْكَمَالُ ، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ( الْمَائِدَةِ : 3 ) وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، فَقِيلَ : الْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْأَصْلِ ، وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نُقْصَانِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ( الْبَقَرَةِ : 196 ) أَحْسَنُ مِنْ " تَامَّةٌ " ، فَإِنَّ التَّمَامَ مِنَ الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ نَقْصٍ فِي صِفَاتِهَا .
وَقِيلَ : " تَمَّ " يُشْعِرُ بِحُصُولِ نَقْصٍ قَبْلَهُ ، وَكَمُلَ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ : رَجُلٌ كَامِلٌ إِذَا جَمَعَ خِصَالَ الْخَيْرِ ، وَرَجُلٌ تَامٌّ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَاقِصِ الطُّولِ .
وَقَالَ
الْعَسْكَرِيُّ : الْكَمَالُ اسْمٌ لِاجْتِمَاعِ أَبْعَاضِ الْمَوْصُوفِ بِهِ ، وَالتَّمَامُ اسْمٌ لِلْجُزْءِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَوْصُوفُ ، وَلِهَذَا يَقُولُونَ : الْقَافِيَةُ تَمَامُ الْبَيْتِ ، وَلَا يَقُولُونَ كَمَالُهُ ، وَيَقُولُونَ الْبَيْتُ بِكَمَالِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الضِّيَاءُ ، وَالنُّورُ .