الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) الغلو : تجاوز الحد . ومنه غلا السعر ، وغلوة السهم . الاستنكاف : الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من حدك ، ومنعته من الجري قال :


فباتوا فلولا ما تدكر منهم من الحلق لم ينكف بعينك مدمع

وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال : هو من النكف ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ، ولا وكف ، والنكف أن يقال له سوء ، واستنكف دفع ذلك السوء .

( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) المعنى : فبظلم عظيم ، أو فبظلم أي ظلم . وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ؛ كما قال : لقد وقعت على لحم ; أي لحم متبع ، ويتعلق بحرمنا . وتقدم السبب على المسبب تنبيها على فحش الظلم ، وتقبيحا له ، وتحذيرا منه . والطيبات هي ما ذكر في قوله : ( وعلى الذين هادوا ) وحرمت عليهم الألبان وبعض الطير والحوت ، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه . وأوضح ذلك قراءة ابن عباس : طيبات كانت أحلت لهم .

( وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) أي ناسا كثيرا ؛ فيكون كثيرا مفعولا بالمصدر ؛ وإليه ذهب الطبري . قال : صدوا بجحدهم أمر محمد جمعا عظيما من الناس ، أو صد كثيرا . وقدره بعضهم زمانا كثيرا .

( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) ، وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم ، [ ص: 395 ] وسوء صنيعهم ; إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه . قالوا : والربا محرم في جميع الشرائع .

( وأكلهم أموال الناس بالباطل ) ; أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب . وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات . قيل كانوا كلما أحدثوا ذنبا حرم عليهم بعض الطيبات ، وأهمل هنا تفصيل الطيبات ؛ بل ذكرت نكرة مبهمة . وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ، ولم يفصل السبب . فقيل ذلك جزيناهم ببغيهم ، وأعيدت الباء في : ( وبصدهم ) لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولا للمعطوف عليه ؛ بل في العامل فيه . ولم يعد في : ( وأخذهم ) ، وأكلهم ؛ لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه . ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) الآية . وبدئ في أنواع الظلم بما هو أهم ، وهو أمر الدين ، وهو الصد عن سبيل الله ، ثم بأمر الدنيا ، وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال ، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي ، وهو أكله بالباطل ; أي مجانا لا عوض فيه . وفي ذكر هذه الآية امتنان على وجه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم .

( وأعتدنا للكافرين منهم عذابا مهينا ) لما ذكر عقوبة الدنيا ، ذكر ما أعد لهم في الآخرة . ولما كان ذلك التحريم عاما لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم ؛ فالتزمه ظالمهم ، وغير ظالمهم كما قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) بين أن العذاب الأليم ؛ إنما أعد للكافرين منهم ، فلذلك لم يأت ، وأعتدنا لهم .

( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) مجيء ( لكن ) هنا في غاية الحسن ; لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما ، وهم الكافرون والعذاب الأليم والمؤمنون والأجر العظيم والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم : كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والمؤمنون يعني منهم ، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار . والظاهر أنه عام في من آمن .

وارتفع الراسخون على الابتداء ، والخبر يؤمنون لا غير ; لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة . ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف ، وانتصب المقيمين على المدح ، وارتفع والمؤتون أيضا على إضمار ، وهم على سبيل القطع إلى الرفع . ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله ; لأن النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت ، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة ؛ فكثر الوصف بأن جعل في جمل .

وقرأ ابن جبير ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري ، وعيسى بن عمر ، ومالك بن دينار ، وعصمة عن الأعمش ، ويونس وهارون عن أبي عمرو : والمقيمون بالرفع نسقا على الأول ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، قاله الفراء . وروي أنها كذلك في مصحف أبي . وقيل بل هي فيه والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان . وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان : إن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف ، ولا يصح عنهما ذلك ; لأنهما [ ص: 396 ] عربيان فصيحان ، قطع النعوت أشهر في لسان العرب ، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره ، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك .

قال الزمخشري : ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان ، وعنى عليه : أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم ، انتهى . ويعني بقوله : من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه ، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو جوزوا في عطف والمقيمين وجوها : أحدها : أن يكون معطوفا على بما أنزل إليك ; أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة . واختلفوا في هذا الوجه من المعني بالمقيمين الصلاة ، فقيل الأنبياء ذكره الزمخشري ، وابن عطية . وقيل الملائكة ؛ ذكره ابن عطية . وقيل المسلمون والتقدير : وندب المقيمين ؛ ذكر ابن عطية معناه . والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير في منهم ; أي لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم . الوجه الثالث : أن يكون معطوفا على الكاف في أولئك ; أي ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة . الوجه الرابع : أن يكون معطوفا على كاف قبلك على حذف مضاف ؛ التقدير : وما أنزل من قبلك ، وقيل المقيمين الصلاة . الوجه الخامس : أن يكون معطوفا على كاف قبلك ، ويعني الأنبياء ؛ ذكره ابن عطية . وقال ابن عطية : فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق ، وكان أنشده قبل ، وهو :


النازلين بكل معترك     والطيبون معاقد الأزر

بحرف العطف الذي في الآية ؛ فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل ، وفي هذا نظر ، انتهى . إن منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف ، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية . قال الشاعر :


ويأوي إلى نسوة عطل     وشعث مراضيع مثل السعالي

وكذلك جوزوا في قوله تعالى : والمؤتون الزكاة وجوها على غير الوجه الذي ذكرناه : من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح : أحدها : أنه معطوف على الراسخون . الثاني : على الضمير المستكن في المؤمنون . الثالث : على الضمير في يؤمنون . الرابع : أنه مبتدأ ، وما بعده الخبر ، وهو اسم الإشارة ، وما يليه . وأما ( المؤمنون بالله ) فعطف على ( والمؤتون الزكاة ) على الوجه الذي اخترناه في رفع ( والمؤتون ) .

ولما ذكر أولا ( والمؤمنون ) تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به ، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة ، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي الصلاة والمالية وهي الزكاة ، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية ، وهي الإيمان بالموحد الذي أنزل الكتب ، وشرع فيها الصلاة والزكاة وباليوم الآخر ، وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة ، وغيرهما . ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجرا عظيما ، وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها ، وأشار إليهم بأولئك ليدل على مجموع تلك الأوصاف . ومن أعرب ( والمؤمنون بالله ) مبتدأ أو خبره ما بعده فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة . والأجود إعراب أولئك مبتدأ ، ومن نصبه بإضمار فعل تفسيره ما بعده : أنه سيؤتي أولئك سنؤتيهم ؛ فيجعله [ ص: 397 ] من باب الاشتغال ؛ فليس قوله براجح ; لأن " زيد ضربته " أفصح وأكثر من " زيدا ضربته " ؛ ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو : سأضرب زيدا ، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال . فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه . وقرأ حمزة : سيؤتيهم بالياء عودا على قوله : والمؤمنون بالله . وقرأ باقي السبعة . على الالتفات . ومناسبة ( وأعتدنا ) .

( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) قال ابن عباس : سبب نزولها أن سكينا الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى ، ولا أوحى إليه . وقال محمد بن كعب القرظي : لما نزلت : ( يسألك أهل الكتاب ) الآيات ، فتليت عليهم ، وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا على عيسى ، وجحدوا جميع ذلك فنزلت : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ) الآية . وقال الزمخشري : إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا ، انتهى . وقدم نوحا وجرده منهم في الذكر ; لأنه الأب الثاني ، وأول الرسل ، ودعوته عامة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض ، كما أن دعوة محمد عامة لجميع من في الأرض .

( وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ) خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفا وتعظيما لهم ، وبدأ بإبراهيم لأنه الأب الثالث ، وقدم عيسى على من بعده تخفيفا لنبوته ، وقطعا لما رآه اليهود فيه ، ودفعا لاعتقادهم ، وتعظيما له عندهم ، وتنويها باتساع دائرته . وتقدم ذكر نسب نوح وإبراهيم وهارون في نسب أخيه موسى . وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي النيسابوري نسبه فقال : أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وأمه من ولد لوط بن هارون . وأما يونس فهو يونس بن متى . وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه : يونس بكسر النون ، وهي لغة لبعض العرب . وقرأ النخعي ، وابن وثاب : بفتحها ، وهي لغة لبعض عقيل ، وبعض العرب يهمز ويكسر ، وبعض أسد يهمز ويضم النون ، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز ، وضم النون .

( وآتينا داود زبورا ) أي كتابا . وكل كتاب يسمى زبورا ، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود . وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب ، ولا يطرد ، وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال ؛ إنما هي حكم ومواعظ ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس . قيل : وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه ؛ بدليل قوله : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس ; لأنهم أصحاب امتحان ، وبلايا في الدنيا ، وجمع بين هارون ، وسليمان ; لأن هارون كان محببا إلى بني إسرائيل معظما مؤثرا ، وأما سليمان فكان معظما عند الناس قاهرا لهم مستحقا له ما ذكره الله تعالى في كتابه ؛ فجمعهما التحبيب والتعظيم . وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه ، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه ؛ فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي .

وقرأ حمزة ( زبورا ) بضم الزاي . قال أبو البقاء : وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود . والثاني : أنه جمع زبور على حذف الزائد ، وهو الواو . وقال أبو علي : كما قالوا طريق وطروق ، وكروان ، وكروان ، وورشان ، وورشان ، مما يجمع بحذف الزيادة . ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، والحارث وحريث ، وثابت وثبيت والجمع مثله في القياس ، وإن كان أقل منه في الاستعمال . قال أبو علي : ويحتمل [ ص: 398 ] أن يكون جمع زبر أوقع على المزبور كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن . وكما سمي المكتوب كتابا .

( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ) ; أي ذكرنا أخبارهم لك .

( ورسلا لم نقصصهم عليك ) روي من حديث أبي ذر : أنه سأل عن المرسلين ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر . قال القرطبي : هذا أصح ما روي في ذلك ؛ خرجه الآجري ، وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له . وفي حديث أبي ذر هذا : أنه سأله كم كان الأنبياء ؟ فقال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي . وروي عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على أثر ثمانية ألف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا . وقال ابن عطية : ما ذكر من عدد الأنبياء غير صحيح والله أعلم بعدتهم ، انتهى .

وانتصاب ورسلا على إضمار فعل ; أي قد قصصنا رسلا عليك ؛ فهو من باب الاشتغال . والجملة من قوله : قد قصصناهم مفسرة لذلك الفعل المحذوف ، ويدل على هذا قراءة أبي ، ورسل بالرفع في الموضعين على الابتداء . وجاز الابتداء بالنكرة هنا ; لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا : فثوب لبست وثوب أجر .

وقال امرؤ القيس :


بشق وشق عندنا لم يحول

ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية ، وهي وآتينا داود زبورا . وقال ابن عطية : الرفع على تقدير وهم : رسل ؛ فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة . وجوزوا أيضا نصب ، ورسلا من وجهين ؛ أحدهما : أن يكون نصبا على المعنى ; لأن المعنى : إنا أرسلناك وأرسلنا رسلا لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي .

( وكلم الله موسى تكليما ) هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه ، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه ، هذا هو الغالب . وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز إلا أنه قليل . فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري :


بكى الخز من عوف وأنكر جلده     وعجت عجيجا من جذام المطارف

وقال ثعلب : لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول : قد كلمت لك فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة ، وبعثت إليه رسولا ؛ فلما قال : تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى . ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام ، واختلف فيها علماء الإسلام ؛ وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام ، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين . وقرأ إبراهيم بن وثاب ( وكلم الله ) بالنصب على أن موسى هو المكلم . ومن بدع التفاسير أنه من الكلم ، وأن معناه : وجرح الله موسى بأظفار المحن ، ومخالب الفتن . وقال كعب : كلم الله موسى بالألسنة كلها ، فجعل موسى يقول : رب لا أفهم ؛ حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة .

( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ; أي يبشرون بالجنة من أطاع ، وينذرون بالنار من عصى . وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إلي رسول آمنت . وفي الحديث : وليس أحد أحب إليه العذر من الله فمن أجل ذلك أنزل الكتب ، وأرسل الرسل . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل ، وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها ؟ قلت : الرسل منهيون عن الغفلة ، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد ، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين ، وبيان أحوال التكليف ، وتعلم الشرائع ؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلة ، وتتميما [ ص: 399 ] لإلزام الحجة ; لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولا ، فيوقظنا من سنة الغفلة ، وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى . وقوله : لئلا هو كالتعليل لحالتي : التبشير والإنذار . والتبشير هو بالجنة والإنذار هو بالنار . وليس الثواب والعقاب حاكما بوجوبهما العقل ؛ وإنما هو مجوز لهما ، وجاء السمع فصارا واجبا وقوعهما ، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة . فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية ، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل ، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث إن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأن تلك معصية ؛ لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله ، وأنه يترتب عليه العقاب . وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله على ما يجب ، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله ؛ فلا يرد سؤال الزمخشري . وانتصب رسلا على البدل ، وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير . قال : والأوجه أن ينتصب على المدح . وجوز غيره أن يكون مفعولا بأرسلنا مقدرة ، وأن يكون حالا موطئة . و ( لئلا ) متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال . وجوز أن يتعلق بمقدر ; أي أرسلناهم بذلك ; أي بالبشارة والنذارة لئلا يكون

( وكان الله عزيزا حكيما ) ; أي لا يغالبه شيء ، ولا حجة لأحد عليه ، صادرة أفعاله عن حكمة ، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل . وقيل عزيزا في عقاب الكفار حكيما في الإعذار بعد تقدم الإنذار .

( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) الاستدراك بـ ( لكن ) يقتضي تقدم جملة محذوفة ; لأن ( لكن ) لا يبتدأ بها ؛ فالتقدير ما روي في سبب النزول ، وهو : أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا : ما نشهد لك بهذا ، لكن الله يشهد ، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات . وقرأ السلمي والجراح الحكمي ( لكن الله ) بالتشديد ، ونصب الجلالة . وقرأ الحسن ( بما أنزل إليك ) مبنيا للمفعول .

( أنزله بعلمه ) قرأ السلمي : نزله مشددا . قال الزجاج : أنزله وفيه علمه . وقال أبو سليمان الدمشقي : أنزله من علمه . وقال ابن جريج : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه . وقيل أنزله إليك بعلمه أنك أهل إنزاله عليك لقيامك بحقه وعلمك بما فيه ، وحسن دعائك إليه ، وحثك عليه . وقيل بما يحتاج إليه العباد . وقيل بعلمه أنك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان . قال ابن عطية : هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى ، خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم . والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله . ومذهب المعتزلة في هذه الآية : أنه أنزله مقترنا بعلمه ; أي فيه علمه من غيوب وأوامر ، ونحو ذلك ؛ فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر ، ما نقص علمي ، وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر . وقال الزمخشري : أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله موقع الجملة المفسرة ; لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر ، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة .

( والملائكة يشهدون ) ; أي بما أنزل الله إليك . وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله ، وقد علم بشهادة الله له إذ أظهر على يديه المعجزات ، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود ، إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي ، فلا تبال فإن الله يشهد لك وملائكته ؛ فلا تلتفت إلى تكذيبهم .

( وكفى بالله شهيدا ) ; أي ، وإن لم يشهد غيره ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) .

( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ) ; أي ضلالا لا يقرب رجوعهم عنه ، ولا تخلصهم منه ; لأنه يعتقد عن نفسه أنه محق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى [ ص: 400 ] اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه ، فهو ضلال في أقصى غاياته . وقرأ عكرمة ، وابن هرمز : وصدوا بضم الصاد ، قيل ، وهي في اليهود .

التالي السابق


الخدمات العلمية