الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      " وإذ " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : لما تكمل إقبال الخطاب عليهم مرات بما تقدم من ندائهم والعطف على ما في صلته صرف الحق وجه الخطاب عنهم إلى ذكر خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم لهم ، فإن الله يخاطب العباد بإسقاط الواسطة بينه وبينهم ترفيعا لأقدارهم لديه ، فيرفع من شاء فيجيبه بما شاء ، ويوقف من شاء فيجعل بينه وبينه في الخطاب واسطة من نبيه ، فلما قررهم بما مضى من التذكير على ما واجههم به الحق تعالى ذكر في هذه الآية تقريرهم على ما خاطبهم به نبيهم حين أعرض الحق عن خطابهم [ ص: 372 ] بما أصابوه من قبيح خطيئتهم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      فقال : وإذ قال موسى لقومه العابد للعجل والساكت عنه ، والقوم قال الحرالي اسم من لهم منة في القيام بما هم مذكورون به ، ولذلك يقابل بلفظ النساء لضعفهن فيما يحاولنه ؛ وفيه تخويف لهذه الأمة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في خطاب ربهم فيعرض عنهم . انتهى . يا قوم وأكد لعراقتهم في الجهل بعظيم ما ارتكبوه وتهاونهم به لما أشربوا في قلوبهم من الهوى فقال إنكم ظلمتم أنفسكم ظلما تستحقون به العقوبة باتخاذكم العجل أي إلها من دون الله ، فجعلتم أنفسكم متذللة لمن لا يملك لها شيئا ولمن هي أشرف منه ، فأنزلتموها من رتبة عزها بخضوعها لمولاها الذي لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه إلى ذلها بخضوعها لمن هو دونكم أنتم ، هذا هو أسوأ الظلم ، فإن المرء لا يصلح أن يتذلل ويتعبد لمثله ، فكيف [ ص: 373 ] لمن دونه من حيوان ! فكيف بما يشبه بالحيوان من جماد الذهب الذي هو من المعادن وهو أخفض المواليد رتبة حين لم تبلغها حياتها أن تبدو فوق الأرض كالنبات من النجم والشجر ولما فيه من الانتفاع بما يكون من الحب والثمر الذي ينتفع به غذاء ودواء ، والمعادن لا ينتفع بها إلا آلات ونقودا ، منفعتها إخراجها لا إثباتها ، قاله الحرالي فتوبوا إلى بارئكم الذي فطركم من قبل أن تتخذوا العجل بريئين من العيب [ ص: 374 ] مع إحكام الخلق على الأشكال المختلفة . وقال الحرالي : البارئ اسم قائم بمعنى البرء وهو إصلاح المواد للتصوير ، كالذي يقطع الجلد والثوب ليجعله خفا وقميصا ، وكالذي يطحن القمح ويعجن الطين ليجعله خبزا وفخارا ونحو ذلك ، ومعناه التدقيق للشيء بحسب التهيؤ لصورته . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت توبتهم بقتل أقاربهم وإن كانوا آباء أو أبناء عبر عنهم بالنفس لذلك وإشارة إلى خبث ما ارتكبوا فقال : فاقتلوا أنفسكم أي التي أوجدها فقادتكم إلى غيره . قال الحرالي : والقتل قصل الحيوان قبل انتهاء قوته بمنزلة قصل الزرع قبل استحصاده . انتهى . ولما كان [ ص: 375 ] ما أمرهم به أمرا لا يكاد يسمح به عظم الرغبة فيه بقوله ذلكم أي الأمر العظيم وهو القتل خير لكم والخير قال الحرالي ما يصلح في الاختيار من محسوس الأشياء وما هو الأصلح وما هو الأخير ، وربما استعملت منه خير محذوفة فيقال : هو خير في نفسه ، أي مما يختار ، ويقال : هذا خير من هذا ، أي أخير منه أي أصلح في الاختيار ، وكذلك لفظ شر في مقابله وهما مشعران بمتوسط من الأشياء لا يختار لأجل زيادة صلاح ولا يطرح لأجل أذى ولا مضرة " عند " كلمة تفهم اختصاص ما أضيفت إليه بوجه ما عام وأخص منه " لدن " ، فـ " لدن " خاصتها و " عند " عامتها ، كالذي يملك الشيء فهو عنده وإن لم يكن في حضرته ، انتهى . [ ص: 376 ] بارئكم أي القادر على إعدامكم كما قدر على إيجادكم ، وفي التعبير بالبارئ ترغيب لهم في طاعته بالتذكير بالإحسان وترهيب بإيقاع الهوان .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير : ففعلتم التوبة المأمور بها ، بأن قتل بعضكم بعضا بتوفيقه لكم سبحانه مع ما فيه من عظم المشقة ؛ عطف عليه قوله : فتاب عليكم أي مع عظم جرمكم ، ولولا توبته عليكم ما تبتم ؛ ثم علل ذلك بقوله : إنه أي لأنه هو التواب الرحيم أي ما زال هذا صفة له لا لاستحقاق منكم عليه قال الحرالي : وفي إظهار " هو " مفصولة من ضمير [ ص: 377 ] وصلها إثبات معنى الرحمة لله ثبتا لا يتبدل ولا يتغير إلا أنه من وراء غيب ما شاء الله من أدب وامتحان وعقاب ، فلذلك ختمه باسمه الرحيم ، لأن الختم أبدى إظهار للمعنى الأخفى من مضمون ما فيه الختم . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية