الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وعليه ) : أي على القول بنفي العلة ( مجرد مشيئته ) تعالى ( مرجح ) لإيجاد فعل ما شاءه . فإذا شاء [ ص: 101 ] سبحانه وتعالى شيئا من الأشياء ترجح بمجرد تلك الإشاءة . ويقولون : علل الشرع أمارات محضة ، وبعضهم يقول بالمناسبة ، ثبت الحكم عندها لا بها .

وقال أبو الخطاب وابن المنى والشيخ الموفق والغزالي ، بقول الشارع : جعل الوصف المناسب موجبا لحسن الفعل وقبحه ، لا أنه كان حسنا وقبيحا قبله ، كما يقول المثبتون . ( وهي ) أي مشيئة الله سبحانه وتعالى ( وإرادته ليستا بمعنى محبته ، ورضاه وسخطه وبغضه ) ( فيحب ويرضى ما أمر به فقط ، وخلق كل شيء بمشيئته تعالى ) فيكون ما يشاء لمشيئته ، وإن كان قد لا يحبه ، وهذا مذهب أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين والصوفية والنظار وابن كلاب .

وذهبت المعتزلة والقدرية والأشعري وأكثر أصحابه ومن وافقهم من المالكية والشافعية ومن أصحابنا - كابن حمدان في نهاية المبتدئين - إلى أن الكل بمعنى واحد ، ثم قالت المعتزلة : هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فلا يشاؤه ، وإنه يكون بلا مشيئته وقالت الجهمية : بل هو يشاء ذلك . فهو يحبه ويرضاه ، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء .

وذكر أبو المعالي الجويني : أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة .

وأما سلف الأمة وأئمتها ، وأكابر الفقه والحديث والتصوف ، وكثير من طوائف النظار كالكلابية والكرامية وغيرهم : فيفرقون بين هذا وهذا ، ويقولون : إن الله تعالى يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى به ، كما يأمر به . ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه ، كما لا يأمر به ، وإن كان قد يشاؤه .

ولهذا كان حملة الشرع من السلف والخلف متفقين على أنه لو حلف ليفعلن واجبا أو مستحبا . كقضاء دين تضيق وقته أو عبادة تضيق وقتها . وقال : إن شاء الله ثم لم يفعله لم يحنث . وهذا يبطل قول القدرية . ولو قال : إن كان الله يحب ذلك ويرضاه فإنه يحنث . كما لو قال : إن كان يندب إلى ذلك ويرغب فيه ، أو يأمر به أمر إيجاب أو استحباب قال البغوي في تفسيره عند قوله تعالى ( سيقول السفهاء ) ( { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } ) والرد عليهم في ذلك أن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته [ ص: 102 ] وإرادته . فإنه مريد لجميع الكائنات ، غير آمر بجميع ما يريد ، وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئة . فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد .

وقال في سورة التغابن عند قوله تعالى ( { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ) وجملة القول فيه : أن الله سبحانه خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب . فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار . وكسبه واختياره بتقدير الله تعالى ومشيئته انتهى .

ثم اعلم أن إرادة الله سبحانه وتعالى في كتابه نوعان : نوع بمعنى المشيئة لما خلق . نحو قوله تعالى ( { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } ) ونوع بمعنى محبته ورضاه لما أمر به ، وإن لم يخلقه . نحو قوله تعالى ( { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ) وقوله تعالى ( { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } ) في آي كثيرة . وبهذا يفصل النزاع في مسألة الأمر : هل هو مستلزم للإرادة أم لا ؟ فإن القدرية تزعم أنه مستلزم للمشيئة . فيكون قد شاء المأمور به و [ لو ] لم يكن ، والجهمية قالوا : إنه غير مستلزم لشيء من الإرادة . ولا محبته له ولا رضاه به إلا إذا وقع . فإنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .

التالي السابق


الخدمات العلمية