الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وقال سفيان بن وكيع بن الجراح : حدثنا جميع بن عمر العجلي إملاء ، قال : حدثنا رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة ، يكنى أبا عبد الله عن ابن لأبي هالة ، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة - وكان وصافا عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ، أطول من المربوع وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إذا انفرقت عقيصته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين . أزج الحواجب : سوابغ في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، بادن ، متماسك ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن ، وما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شثن الكفين والقدمين ، سائل - أو سائر الأطراف ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال قلعا ، يخطو [ ص: 380 ] تكفيا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، ويبدر من لقيه بالسلام . قال : قلت : صف لي منطقه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، يفتتح الكلام بأشداقه ، ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فصل لا فضول ولا تقصير ، دمث ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم شيئا ، غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها ، فإذا تعدي الحق ، لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها ، يضرب براحته اليمنى باطن راحته اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام .

                                                                                      قال الحسن : فكتمتها الحسين زمانا ، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، يعني إلى هند بن أبي هالة ، فسأله عما سألته عنه ، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله ، فلم يدع منه شيئا .

                                                                                      قال الحسين : فسألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك ، وكان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءا لله ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس ، ورد ذلك بالخاصة على العامة ، ولا يدخر عنهم شيئا ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته [ ص: 381 ] عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، يقول : ليبلغ الشاهد الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ثبت الله قدميه يوم القيامة ، ولا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون روادا ، ولا يفترقون إلا عن ذواق ويخرجون أدلة ، يعني على الخير .

                                                                                      فسألته عن مخرجه ، كيف كان يصنع فيه ؟ قال : كان يخزن لسانه إلا مما يعنيه ، ويؤلفهم ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره ، ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهيه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ، ولا يجاوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده أحسنهم مواساة .

                                                                                      فسألته عن مجلسه كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه . من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف . ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول . قد وسع الناس منه بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء . مجلسه مجلس حلم ، وحياء ، وصبر ، وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتاته ، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون فيه [ ص: 382 ] الكبير ، ويرحمون فيه الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب
                                                                                      . أخرج الترمذي أكثره مقطعا في " كتاب الشمائل " .

                                                                                      ورواه زكريا بن يحيى السجزي ، وغيره ، عن سفيان بن وكيع .

                                                                                      ورواه إسحاق بن راهويه ، وعلي بن محمد بن أبي الخصيب ، عن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا جميع بن عمر العجلي ، عن رجل يقال له يزيد بن عمر التميمي من ولد أبي هالة عن أبيه ، عن الحسن بن علي ، وفيه زائد من هذا الوجه وهو : فسألته عن سيرته في جلسائه ، فقال : كان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مزاح ، يتغافل عما لا يشتهيه ، ولا يؤيس منه ، ولا يحبب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : من المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه . إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلم أنصتوا له ، وكان يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ، ويقول : " إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه " ، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه بنهي أو قيام .

                                                                                      فسألته : كيف كان سكوته ؟ قال : على أربع : على الحلم ، والحذر ، والتدبر ، والتفكر ، فأما تدبره ، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى ، وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا [ ص: 383 ] يغضبه شيء ولا يستفزه . وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالخير ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته والقيام بهم ، والقيام فيما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم
                                                                                      .

                                                                                      ورواه بطوله كله يعقوب الفسوي : حدثنا أبو غسان النهدي ، وسعيد بن حماد الأنصاري المصري قالا : حدثنا جميع بن عمر قال : حدثني رجل بمكة ، عن ابن لأبي هالة ، فذكره .

                                                                                      ورواه الطبراني ، عن علي بن عبد العزيز ، عن أبي غسان النهدي .

                                                                                      قرأت على أبي الهدى عيسى بن يحيى السبتي ، أخبركم عبد الرحيم بن يوسف الدمشقي قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ قال : أخبرنا أبو سعد الحسين بن الحسين الفانيذي ، وأبو مسلم عبد الرحمن بن عمر السمناني ، وأبو سعد محمد بن عبد الملك الأسدي ، قالوا : أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم التاجر قال : أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي المعروف بابن أخي أبي طاهر قال : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي قال : حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي ، عن أخيه موسى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين قال : قال الحسن بن علي رضي الله عنهما : سألت خالي هند بن أبي هالة ، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان وصافا ، وأنا أرجو أن يصف لي منه شيئا أتعلق به ، فقال : كان فخما مفخما . فذكر مثل حديث جميع بن عمر بطوله ، إلا في ألفاظ : فقال في عريض الصدر : فسيح الصدر ، وقال رحب الجبهة بدل رحب الراحة ، وقال : يبدأ بدل يبدر [ ص: 384 ] من لقيه بالسلام ، وقال : طويل السكوت بدل السكت ، وقال : لم يكن ذواقا ولا مدحة بدل لا يذم ذواقا ، ولا يمدحه ، وأشياء سوى هذا بالمعنى .

                                                                                      قوله متماسك : أي ممتلئ البدن غير مسترخ ولا رهل ، والمتجرد : المتعري ، واللبة : النحر ، والسائر والسائل : هو الطويل السابغ ، والأخمص : ما يلصق من القدم بالأرض ، والممسوح : الأملس الذي ليس فيه شقوق ، ولا وسخ ، ولا تكسر ، فالماء ينبو عنهما لذلك إذا أصابهما .

                                                                                      وقوله : زال قلعا : المعنى أنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا بقوة لا كمن يمشي اختيالا ويشحط مداسه دلكا بالأرض ، ويروى : زال قلعا . ومعناه : التثبت ، والذريع : السريع . يسوق أصحابه : أي يقدمهم أمامه ، والجافي : المتكبر ، والمهين : الوضيع ، والذواق : الطعام ، وأشاح : أي اجتنب ذاك وأعرض عنه . وحب الغمام : البرد ، والشكل : النحو والمذهب ، والعتاد : ما يعد للأمر مثل السلاح وغيره .

                                                                                      وقوله : لا تؤبن فيه الحرم : أي : لا تذكر بقبيح ، ولا تنثى فلتاته : أي : لا تذاع ، أي : لم يكن لمجلسه فلتات فتذاع ، والنثا في الكلام : القبيح والحسن .

                                                                                      وقد مر في حديث الإسراء أنه قال : رأيت إبراهيم وهو قائم يصلي ، فإذا أشبه الناس به صاحبكم ، يعني نفسه صلى الله عليهما .

                                                                                      وقال إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن قريشا أتوا كاهنة فقالوا لها : أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام ، قالت : إن جررتم كساء على هذه السهلة ، ثم مشيتم عليها أنبأتكم . ففعلوا ، فأبصرت أثر قدم محمد صلى الله عليه وسلم قالت : هذا أقربكم شبها به . فمكثوا بعد [ ص: 385 ] ذلك عشرين سنة أو نحوها ، ثم بعث عليه السلام .

                                                                                      وقال أبو عاصم ، عن عمرو بن سعيد بن أبي حسين ، عن ابن أبي مليكة ، عن عقبة بن الحارث قال : صلى بنا أبو بكر رضي الله عنه العصر ، ثم خرج هو وعلي يمشيان ، فرأى الحسن يلعب مع الغلمان ، فأخذه فحمله على عاتقه ثم قال :

                                                                                      بأبي شبيه النبي ليس شبيها بعلي وعلي يتبسم . أخرجه البخاري ، عن أبي عاصم .

                                                                                      وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن هانئ بن هانئ ، عن علي رضي الله عنه قال : الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية