الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان .

اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه فالتعريض به كالتصريح ، والفعل فيه كالقول والإشارة . والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة ، وكل ما يفهم المقصود ، فهو داخل في الغيبة ، وهو حرام .

فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها : دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم اغتبتيها : ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حاكت امرأة ، قال : ما يسرني أني حاكيت إنسانا ولي كذا وكذا وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين وذكر المصنف شخصا معينا وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره كما سيأتي بيانه وأما قوله قال قوم : كذا فليس ذلك غيبة وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت ومن الغيبة أن تقول : بعض من مر بنا اليوم أو بعض من رأيناه إذا كان المخاطب يفهم منه شخصا معينا ; لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا ، لم يفهم عينه جاز .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئا قال : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين وقولك : بعض من قدم من السفر ، أو بعض من يدعي العلم إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي ، غيبة .

وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء، وذلك مثل ; ، أن يذكر عنده إنسان فيقول : الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام أو يقول : نعوذ بالله من قلة الحياء ، نسأل الله أن يعصمنا منها وإنما قصده أن يفهم عيب الغير فيذكره بصيغة الدعاء وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول : ما أحسن أحوال فلان ، ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا ، وهو قلة الصبر فيذكر نفسه ، ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه ، فيكون مغتابا ومرائيا ومزكيا نفسه ، فيجمع بين ثلاث فواحش ، وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ، ويسخر منهم ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول : سبحان الله ، ما أعجب هذا ! حتى يصغى إليه ، ويعلم ما يقول فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه وهو يمتن على الله عز وجل بذكره ؛ جهلا منه ، وغرورا وكذلك يقول : ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه فيكون كاذبا في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته ولو كان يغتم به لاغتم أيضا بإظهار ما يكرهه وكذلك يقول : ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده ، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا .

ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب ؛ فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق ، فيقول : عجب ما علمت أنه كذلك ، ما عرفته إلى الآن إلا بالخير وكنت أحسب فيه غير هذا ، عافانا الله من بلائه فإن كل ذلك تصديق للمغتاب ، والتصديق بالغيبة غيبة ، بل الساكت شريك المغتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : المستمع أحد المغتابين .

وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه : إن فلانا لنئوم ثم إنهما طلبا أدما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلا به الخبز ، فقال صلى الله عليه وسلم : قد ائتدمتما . فقالا : ما نعلمه قال : بلى إنكما ، أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما ، وكان القائل أحدهما والآخر مستمعا وقال للرجلين اللذين قال أحدهما : أقعص الرجل كما يقعص الكلب انهشا من هذه الجيفة فجمع بينهما فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة ، إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف ، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه وإن قال بلسانه : اسكت وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد ، أي : اسكت ، أو يشير بحاجبه وجبينه فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحا وقال ، صلى الله عليه وسلم : من أذل عنده مؤمن فلم ينصره ، وهو يقدر على نصره ، أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق .

التالي السابق


( بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان )

(اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم) شرعا; (لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك) وعيبه، (وتعريفه بما يكرهه) إما باطنا أو ظاهرا، وقد يكون يكرهه باطنا ولا يظهره من نفسه لموجب، فهو داخل فيه. (فالتعريض به) أي: التلويح (كالتصريح، والفعل فيه كالقول.والإشارة والإيماء والغمز والرمز والكتابة والحركة، وكل ما يفهم المقصود، فهو داخل في الغيبة، وهو حرام) ، فأنواع الغيبة أربعة : أحدها التصريح، وهو ظاهر، والثاني التلويح، ويتضمن أربعة أنواع: الإشارة والإيماء والرمز والغمز، إما بالعين أو بأخذ اليد، والثالث: الكتابة بالقلم، أو بالأصبع، والرابع الحركة، وهي المحاكاة، وكل ذلك حرام، وتتضمن هذه الأنواع فروعا كثيرة، [ ص: 542 ] ولكن هذه الأصول وما عداها يرجع إليها، وقد يفصلها المصنف في سياقه، (فمن ذلك) أي: من نوع الإشارة (قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة) ، وعندنا النبي صلى الله عليه وسلم، (فلما ولت) أي: انصرفت مولية بظهرها، (أومأت) أي: أشرت، (بيدي) ، وفي رواية بإبهامي (أنها قصيرة) قصر الإبهام، (فقال صلى الله عليه وسلم: قد اغتبتها) ، قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا ، وابن مردويه من رواية حسان بن مخارق ، وحسان وثقه ابن حبان ، وباقيهم ثقات. اهـ .

قلت: قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبد الرحمن القرشي ، حدثنا أبو معاوية ، قال: ذكر الشيباني عن حسان بن مخارق ، عن عائشة قالت: دخلت امرأة قصيرة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فقلت بإبهامي هكذا، وأشرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتها . هذا لفظ ابن أبي الدنيا ، وأما لفظ ابن مردويه في التفسير: "أقبلت امرأة قصيرة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، قلت: فأشرت بإبهام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد اغتبتها" . ورواه كذلك الخرائطي في مساوئ الأخلاق، والبيهقي في الشعب .

وأخرج عبد بن حميد من حديث عكرمة : "أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجت، فقالت عائشة : يا رسول الله، ما أجملها وأحسنها لولا أن بها قصرا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتها" . الحديث، (ومن ذلك المحاكاة) يقال: حكاه، وحاكاه، إذا فعل مثل فعله، وأكثر ما يستعمل في القبيح. (بأن يمشي متعارجا) ، أو متطأطئا رأسه، (أو كما يمشي) أو غير ذلك من الهيئات، كأن يحاكي خطبته أو وعظه، أو تدريسه، أو غير ذلك، (فهو غيبة) محرمة، (بل هو أشد من الغيبة) ، أي: من أشد أنواعها; (لأنه أعظم في التصوير والتفهيم) للغير، (ولما رأى صلى الله عليه وسلم عائشة ) رضي الله عنها، (حكت امرأة، قال: ما يسرني أني حاكيت) وفي نسخة: حكيت (إنسانا ولي كذا وكذا) تقدم في الآفة الحادية عشرة، (وكذلك الغيبة بالكتابة ) بالقلم على الورق، (فإن القلم أحد اللسانين) ، وهو من الكلمات الحكيمة، أي أن القلم في التصوير والتفهيم مثل اللسان .

(وذكر المصنف) في كتابه (شخصا معينا وتهجينه) أي: نسبته إلى الهجنة، (وذكر كلامه في الكتاب) على وجه التهوين والتنكيل والإزراء (غيبة) محرمة، لا يجوز ارتكاب مثله، (إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة كما سيأتي بيانه) فيما بعد، (وأما قوله) في الكتاب (قال قوم: كذا) ، فهذا هو الإبهام، (فليس ذلك غيبة) أي: الإبهام في الغيبة ليس بغيبة، فهو جائز، (إنما الغيبة التعريض لشخص معين إما حي أو ميت) بما يسوؤه ويكرهه، ويستثنى من هذا الإبهام ما إذا فهم منه المعين بقرينة، فإنه غيبة، وإليه أشار المصنف بقوله: (ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم) أو بعض من قدم اليوم، (أو بعض من رأيناه) اليوم، (إذا كان المخاطب) به (يفهم منه) بقرينة قائمة (شخصا معينا; لأن المحذور) إنما هو (تفهيمه دون ما به التفهيم، فإذا لم يفهم عينه جاز) ، ولم يكن غيبة، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئا قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) ، فهذا هو الإبهام في الغيبة . قال العراقي : رواه أبو داود من حديث عائشة ، ورجاله رجال الصحيح. اهـ. (وكان) وفي نسخة: فكان (لا يعين) شخصا بعينه، (وقولك: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم) ، أو بعض ما يوصف بالصلاح، ونحو ذلك، (إذا كان معه قرينة) قائمة (تفهم عين الشخص، فهو غيبة، وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء) ، أي: العلماء (المرائين) بعلومهم، وهم علماء الدنيا، (فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم) للناس (التعفف عن الغيبة) والتباعد عنها، (ويفهمون المقصود) الذي سيق الكلام لأجله، (ولا يدرون) بجهلهم (أنهم جمعوا بين فاحشتين; الرياء والغيبة، ومثل ذلك أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبلنا) أي: لم يمتحنا، (بالدخول على السلطان) ، أو بمخالطة الأمراء، أو: الحمد لله الذي عصمني من مخالطة السلطان، (والتبذل في طلب الحطام) ، أي: متاع الدنيا من مال وغيره، (أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء، نسأل الله أن يعصمنا منه) ، أو [ ص: 543 ] يقول: الله يلطف به. ونحو ذلك، (وإنما) قصده بذلك (أن يفهم) الناس (عيب الغير) من الخلطة، وطلب الحطام، وقلة الحياء، (فيذكره بصيغة الدعاء) له، (وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته) أي: اغتيابه، (فيقول: ما أحسن أحوال فلان، ما كان يقصر في العبادات) ، ولم يشتغل بغيرها، (ولكن قد اعتراه) الآن (فتور) همة وكسل، (وابتلي بما يبتلى به كلنا، وهو قلة الصبر) على المكاره، (فذكر نفسه، ومقصوده) من ذلك (أن يذم غيره ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين في ذم أنفسهم، فيكون) بهذا الفعل (مغتابا) لأخيه، (ومرائيا) لعمله، (ومزكيا نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظن بجهله أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة) ، وهذا من أدق ما يبتلى به الخاصة، فضلا عن العامة، (وكذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل) من العامة، (إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم) يتعلمونه، (فإنه يتعبهم) أي: يوقعهم في المشقة، (ويحبط بمكايده عملهم) ، فلا يكون مقبولا، (ويضحك عليهم، ويسخر منهم) ، ويلعب بهم كما يلعب الصبي بالكرة، فقد روى أبو نعيم في الحلية من حديث واثلة : المتعبد بلا فقه كالحمار في الطاحون . (ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين) في المجلس، (فيقول: سبحان الله، ما أعجب هذا!) ، فينبهه (حتى يصغي) بأذن قلبه (إلى المغتاب، ويعلم ما يقوله) ويلقيه، (فيذكر اسم الله) جل اسمه، (ويستعمل ذكره آلة له في تحقيق خبثه) في طويته، (وهو يمتن على الله عز وجل بذكره؛ جهلا منه، وغرورا) واستخفافا، (وكذلك يقول: لقد ساءني ما جرى على صديقنا) الفلاني (من الاستخفاف به) ، والإزراء لشأنه، (فنسأل الله أن يروح سره) ، وفي نسخة: نفسه، أي: يعطيه راحة سر، والمراد بالسر الباطن، (ويكون) هو (كاذبا في دعوى الاغتمام) عليه، (وفي إظهار الدعاء) له، (بل لو) كان صادقا في دعواه، و (قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة) عن الناس، أو (عقيب صلاته) بينه وبين الله تعالى، (ولو كان يغتم به لاغتم أيضا بإظهار ما يكرهه) ويسوؤه لو بلغه، (وكذلك يقول: ذلك المسكين) أو المسيكين، بالتصغير، (قد بلي بآفة عظيمة تاب الله عليه وعلينا) ، أو علينا وعليه، كما في نسخة، (فهو في كل ذلك يظهر الدعاء) له، (والله مطلع على خبث ضميره) ، ورداءة طويته، (وخفي قصده، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما يتعرض له الجهال إذا جاهروا) إذ نبه بقوله ذلك على أنه يرتكب ما يجب عليه التوبة، (ومن ذلك الإصغاء) أي: الميل بأذن القلب، (إلى الغيبة على سبيل التعجب؛ فإنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها) أي: يسترسل، (فكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق، فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك، ما عرفته إلى الآن إلا بالخير) والصلاح، (وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه) ، أو لطف الله به، (فإن كل ذلك تصديق للمغتاب، والتصديق بالغيبة غيبة، بل الساكت شريك المغتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستمع أحد المغتابين ) ، أي: المستمع والمغتاب شريكان في الإثم، قال العراقي : روى الطبراني من حديث ابن عمر : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة وعن الاستماع إلى الغيبة" . وهو ضعيف. اهـ .

قلت: وكذلك رواه الخطيب ، ولفظه: "نهى عن الغناء والاستماع إلى الغناء، وعن الغيبة والاستماع إلى الغيبة، وعن النميمة والاستماع إلى النميمة" . قال الهيتمي : فيه فرات بن السائب ، وهو متروك .

وروى ابن أبي الدنيا عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان أنه قال لمولى له: نزه سمعك عن استماع الخنا، كما تنزه لسانك عن القول به؛ فإن المستمع شريك القائل . (وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلانا لنؤوم) أي: كثير النوم، (ثم طلب أدما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلاه مع الخبز، فقال صلى الله عليه [ ص: 544 ] وسلم: قد ائتدمتما. فقالا: ما نعلمه. فقال: بلى، ما أكلتما من لحم صاحبكما) ، قال العراقي : رواه أبو العباس [الدغولي] في الأدب من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا، نحوه، ورواه أيضا المقدسي في المختارة من رواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس . اهـ .

قلت: قال الخرائطي في مساوئ الأخلاق: حدثنا أبو بدر عباد بن الوليد ، حدثنا حبان بن هلال ، عن حماد ، عن ثابت ، عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما، فناما، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما، فقال أحدهما: إن هذا لنؤوم. فأيقظاه، فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام، فقال: ائتدما. فجاء فأخبرهم، فقالا: يا رسول الله، بأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما. فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. فقال: مراه فليستغفر لكما .

(فانظر كيف جمعهما، وكان القائل أحدهما والآخر مستمعا) ، وقد رويت هذه القصة من وجه آخر من مرسل يحيى بن أبي كثير ، أورده الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ومعه أبو بكر وعمر ، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه لحما، فقال: أوليس قد ظللتم من اللحم شباعا؟ قالوا: من أين؟ فوالله ما لنا باللحم عهد منذ أيام؟ فقال: من لحم صاحبكم الذي ذكرتم. قالوا: يا نبي الله إنما قلنا: والله إنه لضعيف ما يعيننا على شيء. قال: ذلك؛ فلا تقولوا. فرجع إليهم الرجل فأخبرهم بالذي قال، قال: فجاء أبو بكر فقال: يا نبي الله، طأ على صماخي واستغفر لي. ففعل، وجاء عمر فقال: يا نبي الله طأ على صماخي واستغفر لي. ففعل ، وهذا السياق دل على أنهما رضي الله عنهما كانا مستمعين، وأن القائل بالكلام المذكور غيرهما بدليل قولهما: طأ على صماخي، فأشار به إلى أنه كان مستمعا، (وقال للرجلين اللذين) مرا على ماعز وهو يرجم: (وقال أحدهما للآخر: أقعص الرجل كما أقعص الكلب) ، ومقول القول: (انهشا من هذه الميتة) ، قد تقدم قبل هذا باثني عشر حديثا، (فجمع بينهما) مع أن القائل واحد، (فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة، إلا بأن ينكر) على المغتاب، (بلسانه) إن قدر، (فإن خاف) الضرر (فبقلبه، وإن قدر على القيام) من ذلك المجلس، (أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعله لزمه) الإثم، (وإن قال بلسانه: اسكت وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق) لمخالفة قلبه لسانه، (ولا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه) مصمما عليه، (ولا يكفي أن يشير باليد، أي: اسكت، أو يشير بحاجبه أو جبينه) ، أو طرف عينه، (فإن ذلك استحقار للمذكور) بالغيبة، (بل ينبغي أن يعظمه فيذب عنه صريحا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أذل) بالبناء للمجهول، (عنده) أي: بحضرته أو بعلمه (مؤمن، وهو يقدر) أي: والحال أنه يقدر (على أن ينصره) على من ظلمه، (فلم ينصره، أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق) قال العراقي : رواه أحمد والطبراني من حديث سهل بن حنيف ، وفيه ابن لهيعة . اهـ .

قلت: قال الهيتمي : وهو حسن الحديث، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات، وكذلك رواه ابن السني في اليوم والليلة، ولفظهم جميعا: "من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة" .

وروى الخرائطي من حديث عمران بن حصين : "من ذكر عنده أخوه المسلم بظهر الغيب، وهو يقدر على أن ينصره فنصره، نصره الله في الدنيا والآخرة" . ومن حديث أنس بزيادة: ومن لم ينصره أدركه الله بها في الدنيا والآخرة .




الخدمات العلمية