الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1530 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما [105].

                                                                                                                                                                                                                                      واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما [106].

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما [107].

                                                                                                                                                                                                                                      يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا [108].

                                                                                                                                                                                                                                      ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [109]

                                                                                                                                                                                                                                      إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما

                                                                                                                                                                                                                                      واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما

                                                                                                                                                                                                                                      يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا

                                                                                                                                                                                                                                      ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1531 ] روى الحافظ ابن مردويه من طريق العوفي، عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن (أي: اتهم) بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده.

                                                                                                                                                                                                                                      فانطلقوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا فقالوا: يا نبي الله! إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرأه وعذره على رءوس الناس فأنزل الله: إنا أنـزلنا الآية،
                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين يجادلون عن الخائنين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال عز وجل: ومن يعمل سوءا الآية، يعني الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفين بالكذب، ثم قال: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وهذا سياق غريب، وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم (في هذه الآية) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، ورواها عنه من طريقه أبو عيسى الترمذي في "جامعه" في كتاب التفسير، عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال: [ ص: 1532 ] كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير (قال أبو ذر الخشني: بشير بن أبيرق، كذا وقع هنا: بشير بفتح الباء، وقال الدارقطني: إنما هو بشير بضم الباء) ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا ، أو قال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:


                                                                                                                                                                                                                                      أوكلما قال الرجال قصيدة أضموا وقالوا: ابن الأبيرق قالها!



                                                                                                                                                                                                                                      قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة من الشام بالدرمك - ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفان وما يصلحهما، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1533 ] قال: فتحسست في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى - فيما نراه - إلا على بعض طعامكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار -: والله! ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام - فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول الله! إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنظر في ذلك فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا - أهل إسلام وصلاح - يرمونهم بالسرقة في غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت - ذكر منهم إسلام وصلاح - ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال: فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي [ ص: 1534 ] ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان.

                                                                                                                                                                                                                                      فلم نلبث أن نزل القرآن: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما يعني: بني أبيرق.

                                                                                                                                                                                                                                      واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: بني أبيرق إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس إلى قوله: ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا قولهم للبيد: ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك يعني: أسيرا وأصحابه وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنـزل الله عليك الكتاب والحكمة إلى قوله: فسوف نؤتيه أجرا عظيما

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نزل القرآن: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح فرده إلى رفاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا، فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي! هو في سبيل الله، قال: فعرفت أن إسلامه صحيحا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1535 ] فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شهيد ، فأنزل الله فيه: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين إلى قوله: ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا

                                                                                                                                                                                                                                      فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمته في الأبطح، ثم قالت: أهديت إلي شعر حسان، ما كنت تأتيني بخير.


                                                                                                                                                                                                                                      وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه ابن أبي حاتم ، عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة به، ببعضه، [ ص: 1536 ] ورواه ابن المنذر في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه أبو الشيخ الأصفهاني في "تفسيره" بسنده عن محمد بن سلمة به، ثم قال في آخره: قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه الحاكم في كتابه "المستدرك" بسنده، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه، أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، كذا نقله ابن كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في "اللباب": وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فدعا بشيرا فسأله فأنكر، ورمى بذلك لبيد بن سهل - رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب - فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد : إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المسلمين، فنزل فيه: ومن يشاقق الرسول [النساء: من الآية 115] الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول: قوله تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله أي: بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك، سمي ذلك العلم بالرؤية؛ لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : وعن عمر - رضي الله عنه -: لا يقولن أحدكم: قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكن ليجتهد رأيه؛ لأن الرأي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مصيبا؛ لأن الله كان يريه إياه، وهو منا الظن والتكلف.

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: روى هذا الأثر البيهقي في "المدخل" وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس، وتعقبه السيوطي بما أخرجه [ ص: 1537 ] ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال: إياكم والرأي، فإن الله تعالى قال لنبيه: لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل: بما رأيت.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال السيوطي : وقال غيره: يحتمل قوله: بما أراك الله الوحي والاجتهاد معا. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه الإمام أحمد عنها أيضا بلفظ: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته (أو قد قال: لحجته) من بعض، فإني أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه أبو داود وزاد: إني إنما أقضي بينكما برأيي، فيما لم ينزل علي فيه انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1538 ] قال السيوطي : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم؛ لأن الله تعالى فوض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد؟! انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولا تكن للخائنين أي: لأجلهم والذب عنهم، وهم طعمة ومن يعينه من قومه على ما تقدم خصيما أي: مخاصما، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: واستغفر الله أي: مما قلت لقتادة، كما تقدم مفسرا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا: لو لم يقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذنب لما أمر بالاستغفار، ثم أجاب عن ذلك بوجوه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي عياض في "الشفا": إن تصرف الأنبياء - عليهم السلام - بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها، ثم عوتبوا بسببها، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم وإلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وأطال في هذا المقام وأطاب.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: وأيضا، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفا أشار إليه بعض العلماء، وهو استدعاء محبة الله، قال الله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة: من الآية 222] انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أي: يخونونها بالمعصية، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي : واعلم أن في الآية تهديدا شديدا، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مال طبعه قليلا إلى جانب طعمة - وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقا - فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالما، ثم يعينه على ذلك الظلم، بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب؟!! اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما قيل: للخائنين [ ص: 1539 ] (ويختانون) مع أن الخائن واحد؛ لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خان خيانته، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى: إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتد، كما أسلفنا.

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أنها لها أخوات، وعن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه، فقال: كذبت؛ إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يستخفون من الناس أي: يستترون؛ حياء منهم وخوفا من ضررهم ولا يستخفون من الله فلا يستحيون منه وهو معهم أي: وهو عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم، مع علمهم - إن كانوا مؤمنين - أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: إذ يبيتون ما لا يرضى من القول أي: يدبرون ويزورون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: ها أنتم هؤلاء الآية، المجادلة: أشد المخاصمة، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: أم من يكون عليهم وكيلا حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة هذه الآيات: وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم على إباحة المجادلة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية