الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 527 ] وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون

                                                                                                                                                                                                وقطعناهم في الأرض أمما : وفرقناهم فيها ، فلا يكاد يخلوا بلد من فرقة منهم منهم الصالحون : الذين آمنوا منهم بالمدينة ، أو الذين وراء الصين ومنهم دون ذلك : ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه ، وهم الكفرة والفسقة .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : ما محل دون ذلك؟

                                                                                                                                                                                                قلت : الرفع ، وهو صفة لموصوف محذوف ، معناه : ومنهم ناس منحطون عن الصلاح ; ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، بمعنى : وما منا أحد إلا له مقام وبلوناهم بالحسنات والسيئات : بالنعم ، والنقم ، "لعلهم" : ينتهون فينيبون ، "فخلف" : من بعد المذكورين ، "خلفهم" : وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثوا الكتاب : التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم . يقرءونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ، ولا يعملون بها يأخذون عرض هذا الأدنى أي : حطام هذا الشيء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها ، وفي قوله : "هذا الأدنى" : تخسيس وتحقير ، والأدنى : إما من الدنو بمعنى القرب ; لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها ، والمراد : ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة ويقولون سيغفر لنا : لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، وفاعل : "سيغفر" الجار والمجرور ، وهو : " لنا " ويجوز أن يكون الأخذ الذي هو مصدر يأخذون وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه : الواو : للحال ، أي : يرجون المغفرة ، وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم ، غير تائبين ، وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة ، والمصر لا غفران له ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب يعني : قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما ; فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ودرسوا ما فيه : في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب ، والذي عليه المجبرة ، هو مذهب اليهود بعينه كما ترى ، وعن مالك بن دينار - رحمه الله - : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به ، قالوا : سيغفر لنا ; لأنا لم نشرك بالله شيئا ، كل أمرهم إلى الطمع ، خيارهم فيهم المداهنة ، فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله ، [ ص: 528 ] وتلا الآية والدار الآخرة خير : من ذلك العرض الخسيس للذين يتقون : الرشا ومحارم الله .

                                                                                                                                                                                                وقرئ : "ورثوا الكتاب" ، "وألا تقولوا" ، بالتاء ، "وادارسوا" ، بمعنى : تدارسوا ، "وأفلا تعقلون" ، بالياء والتاء .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : ما موقع قوله : أن لا يقولوا على الله إلا الحق ؟

                                                                                                                                                                                                قلت : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ، ومعنى : "ميثاق الكتاب" ، الميثاق المذكور في الكتاب ، وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب ، وافتراء على الله ، وتقول عليه ما ليس بحق ، وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان : "أن لا يقولوا" : مفعولا له ، ومعناه : لئلا يقولوا ، ويجوز أن تكون : "أن" : مفسرة ، و "لا تقولوا" : نهيا ، كأنه قيل : ألم يقل لهم : لا تقولوا على الله إلا الحق؟

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : علام عطف قوله : "ودرسوا ما فيه"؟

                                                                                                                                                                                                قلت : على ألم يؤخذ عليهم ; لأنه تقرير ، فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية