الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
قاعدة أخرى

فيما إذا ذكر الاسم مرتين .

إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال لأنه إما أن يكونا معرفتين ، أو نكرتين ، أو الثاني معرفة ، والأول نكرة ، أو عكسه .

فالأول أن يكونا معرفتين ، والثاني فيه هو الأول غالبا ، حملا له على المعهود [ ص: 83 ] الذي هو الأصل في اللام ، أو الإضافة ، كالعسر في قوله : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) ( الانشراح : 5 - 6 ) ولذلك ورد : لن يغلب عسر يسرين . قال التنوخي : إنما كان مع العسر واحدا ، لأن اللام طبيعة ، والطبيعة لا ثاني لها بمعنى أن الجنس هي ، والكلي لا يوصف بوحدة ولا تعدد .

وقوله : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) ( الصافات : 158 ) . 4 وقوله : ( فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ) . وقوله : ( وقهم السيئات ومن تق السيئات ) ( غافر : 9 ) . وقوله : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) ( غافر : 16 - 17 ) .

وقوله : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( غافر : 57 ) .

وقوله : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) ( فصلت : 37 ) .

وقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين ) ( الفاتحة : 6 - 7 ) .

وهذه القاعدة ليست مطردة ، وهي منقوضة بآيات كثيرة كقوله تعالى : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ( الرحمن : 60 ) فإنهما معرفتان ، وهما غيران ، فإن الأول هو العمل ، والثاني الثواب . وقوله تعالى : ( أن النفس بالنفس ) ( المائدة : 45 ) أي القاتلة والمقتولة . وقوله : ( الحر بالحر ) ( البقرة : 178 ) . وقوله : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) ( الإنسان : 1 ) . وقوله : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة ) ( الإنسان : 2 ) .

وقوله : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ) [ ص: 84 ] ( المائدة : 48 ) . وقوله : ( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) ( العنكبوت : 47 ) .

وقوله : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ) ( آل عمران : 26 ) .

فالملك الذي يؤتيه الله للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه ، فقد اختلفا وهما معرفتان ، لكن يصدق أنه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم ، كما صرح بنحوه في قوله تعالى : ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) ( آل عمران : 73 ) فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق باعتبار أصل الفضل .

ونظيرها قوله تعالى : ( أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ) ( النساء : 139 ) وقوله : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض ) ( سبأ : 9 ) فالأول عام والثاني خاص .

وقوله : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( غافر : 57 ) . ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ( غافر : 61 ) . وقوله : ( قال فالحق والحق أقول ) ( ص : 84 ) فالأول نصب على القسم ، والثاني نصب بـ " أقول " ، وهذا بخلاف قوله : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) ( الإسراء : 105 ) .

وأما قوله : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) ( يوسف : 53 ) فالأول معرفة بالضمير ، والثانية عامة ، والأولى خاصة ، فالأول داخل في الثاني . وكذا قوله : ( عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله ) ( ص : 26 ) وقوله : ( برب العالمين رب موسى وهارون ) ( الشعراء : 47 - 48 ) وقوله : ( أبلغ الأسباب أسباب السماوات ) ( غافر : 36 - 37 ) . وقوله : ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( الفتح : 23 ) .

وقوله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ( البقرة : 185 ) ثم قال : [ ص: 85 ] ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ( البقرة : 185 ) فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصا ، والثاني عاما متفقان بالجنس . وكذلك ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ( النجم : 28 ) ولذلك استدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا .

وأما قوله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) ( القصص : 25 ) بعد قوله : ( قالت إحداهما ) ( القصص : 26 ) فيحتمل أن تكون الأولى هي الثانية ، وألا تكون . ونظيرها قوله تعالى : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ( البقرة : 282 ) .

فإن كانت " إحداهما " الثانية مفعولا ، فالاسم الأول هو الثاني على قاعدة المعرفتين ، وإن كانت فاعلا فهما واحد باعتبار الجنس ، وأكثر النحاة على أن الإعراب إذا لم يظهر في واحد من الاسمين تعين كون الأول فاعلا ، خلافا لما قاله الزجاج في قوله تعالى : ( فما زالت تلك دعواهم ) ( الأنبياء : 15 ) .

وقوله : ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ) ( آل عمران : 78 ) فالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم ثم كرره بقوله : ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) ( البقرة : 79 ) والكتاب الثاني التوراة . والثالث جنس كتب الله تعالى أي ما هو من شيء في كتب الله تعالى وكلامه . قال الراغب .

( الثاني ) أن يكونا نكرتين ، فالثاني غير الأول ، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على كونه معهودا سابقا . قالوا : والمعنى في هذا والذي قبله أن النكرة تستغرق الجنس ، والمعرفة تتناول البعض ، فيكون داخلا في الكل سواء قدم أو أخر . والمشهور في تمثيل هذا القسم اليسر في قوله تعالى : ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) ( الانشراح : 5 - 6 ) .

[ ص: 86 ] وقد قيل : إن تنكير ( يسرا ) للتعميم ، وتعريف اليسر للعهد الذي كانوا عليه ، يؤكده سبب النزول ، أو الجنس الذي يعرفه كل أحد ليكون اليسر الثاني مغايرا للأول بخلاف العسر ، والتحقيق أن الجملة الثانية هنا تأكيد للأولى لتقديرها في النفس ، وتمكينها من القلب ، ولأنها تكرير صريح لها ، ولا تدل على تعدد اليسر ، كما لا يدل قولنا : وإن مع زيد كتابا ، إن مع زيد كتابا ، على أن معه كتابين ، فالأفصح أن هذا تأكيد .

وقوله تعالى : ( الله الذي خلقكم من ضعف ) ( الروم : 54 ) الآية ، فإن كلا من المذكور غير الآخر ، فالضعف الأول النطفة أو التراب ، والثاني الضعف الموجود في الطفل والجنين ، والثالث في الشيخوخة ، والقوة الأولى التي تجعل للطفل حركة وهداية لاستدعاء اللبن ، والدفع عن نفسه بالبكاء ، والثانية بعد البلوغ .

قال ابن الحاجب في قوله تعالى : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) ( سبأ : 12 ) : الفائدة في إعادة لفظ شهر الإعلام بمقدار زمن الغدو ، وزمن الرواح ، والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار .

واعلم أنه ينبغي أن يأتي في هذا القسم الخلاف الأصولي في نحو : صل ركعتين ، صل ركعتين ، هل يكون أمرين بمأمورين ، والثاني تأسيس ، أو لا ؟ وفيه قولان .

وقد نقضوا هذا القسم بقوله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) ( الزخرف : 84 ) فإن فيه نكرتين ، والثاني هو الأول وأجاب الطيبي بأنه من باب التكرير وإناطة أمر زائد .

[ ص: 87 ] وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير ، وهذه الآية من قصد التكرير ، ويدل عليه تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله : ( سبحان رب السماوات والأرض رب العرش ) ( الزخرف : 82 ) .

وأجاب غيره بأن إلها بمعنى معبود ، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة ، فأنت إذا قلت : زيد ضارب عمرو ، ضارب بكر ، لا يتخيل أن الثاني هو الأول ، وإن أخبر بهما عن ذات واحدة ، فإن المذكور حقيقة إنما هو المضروبان لا الضاربان ، ولا شك أن الضميرين مختلفان .

ومنها قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) ( البقرة : 117 ) الثاني هو الأول ، وأجيب بأن أحدهما محكي من كلام السائل ، والثاني من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما الكلام في وقوعهما من متكلم واحد . ومنها قوله تعالى : ( فباءوا بغضب على غضب ) ( البقرة : 90 ) ومنها : ( ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ) ( الملك : 8 - 9 ) .

ومنها : ( وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ) ( الأنعام : 37 ) .

( الثالث ) أن يكون الأول نكرة ، والثاني معرفة ، فهو كالقسم الأول ، يكون الثاني فيه هو الأول ، كقوله تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) ( المزمل : 15 - 16 ) . وقوله : ( فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ) ( النور : 35 ) . وقوله : ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل ) ( الشورى : 41 - 42 ) . وقوله : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ) ( الشورى : 52 - 53 ) وهذا منتقض بقوله : ( لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق ) أي لا يملكون شيئا من الرزق ، فابتغوا عند الله كل رزق ( العنكبوت : 17 ) .

وقوله : ( فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) ( النساء : 128 ) ، [ ص: 88 ] فإنهم استدلوا بها على استحباب كل صلح ، فالأول داخل في الثاني ، وليس بجنسه . وكذلك ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ( يونس : 36 ) وقوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ( هود : 3 ) الفضل الأول العمل ، والثاني الثواب . وكذلك : ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ( هود : 52 ) . وكذلك : ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ( الفتح : 4 ) . وكذلك ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) ( النحل : 88 ) تعريفه أن المزيد غير المزيد عليه . وكذلك : ( كتاب أنزلناه إليك ) ( إبراهيم : 1 ) إلى قوله : ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب ) ( الأنعام : 157 ) .

( الرابع ) : عكسه فلا يطلق القول به بل يتوقف على القرائن ، فتارة تقوم قرينة على التغاير ، كقوله تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) ( الروم : 55 ) . وكذلك قوله : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا ) ( النساء : 153 ) . وقوله : ( ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى ) ( غافر : 53 - 54 ) قال الزمخشري : المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع ، والهدى والإرشاد .

وتارة تقوم قرينة على الاتحاد كقوله تعالى : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا ) ( الزمر : 27 - 28 ) وقوله : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ) ( الأحقاف : 29 ) . إلى قوله : ( إنا سمعنا كتابا ) ( الأحقاف : 30 ) .

وأما قوله تعالى في سورة البقرة : ( بالمعروف ) ( البقرة : 178 ) . وقوله أيضا : ( من معروف ) ( البقرة : 240 ) فهو من إعادة النكرة معرفة لأن ( من معروف ) وإن كان في التلاوة متأخرا عن ( بالمعروف ) فهو في الإنزال متقدم عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية