الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 132 ] اسم الجنس إذا أدخلت عليه الألف واللام

                                                      وأما اسم الجنس بأقسامه السابقة ، فإذا دخلت عليه الألف واللام سواء الاسم كالذهب والفضة ، أو الصفة المشتقة كالضارب ، والمضروب ، والقائم والسارق ، والسارقة ، فإن كان للعهد فخاص ، سواء الذكري كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا . فعصى فرعون الرسول } أو الذهني كقوله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } فإن اللام في الرسول للعهد ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ .

                                                      وإن لم يرد به معهود ، فاختلفوا فيه على أقوال :

                                                      أحدها : أنه يفيد استغراق الجنس ، ونقل عن نص الشافعي في " الرسالة " و " البويطي " ونقله أصحابه عنه في قوله تعالى : { وأحل الله البيع } ، وهو كذلك في " الأم " من رواية الربيع ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } إنكارا على قول عبد الله بن أبي ( ليخرجن الأعز منها الأذل ) فدل على أن اسم الجنس المعرف يعم ، ولولا ذلك لما تطابق ، والفقهاء كالمجمعين عليه في استدلالهم بنحو { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني } وهو الحق ; لأن الجنس معلوم قبل دخول الألف واللام ، فإذا دخلتا ولا معهود ، فلو لم يجعله للاستغراق لم يفد شيئا جديدا . [ ص: 133 ]

                                                      وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وسليم الرازي في " التقريب " : " إنه المذهب " ، ونقله الأستاذ أبو منصور عن القائلين بالصيغ قال القاضي عبد الوهاب : وهو قول جمهور الأصوليين ، وكافة الفقهاء . وقال به أبو عبد الله الجرجاني ، ونسبه لأصحابه الحنفية . وقال القرطبي : إنه مذهب مالك وغيره من الفقهاء . وقال الباجي : " إنه الصحيح " ، وبه قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان ، وابن السمعاني والجبائي ، ونصره عبد الجبار ، وصححه إلكيا الطبري ، وابن الحاجب ، ونقله الآمدي عن الشافعي والأكثرين ، ونقله الإمام فخر الدين عن المبرد والفقهاء .

                                                      قلت : ونص عليه سيبويه فإنه قال : قولك شربت ماء البحر محكوم بفساده ، لعدم الإمكان ولولا اقتضاؤه العموم لما جاء الفساد .

                                                      لكن اختلف أصحابنا في أن العموم فيه من حيث اللفظ أو المعنى على وجهين ، حكاهما الشيخ أبو حامد ، وسليم الرازي في " التقريب " ، وابن السمعاني في " القواطع " ، وصحح ابن السمعاني أنه من حيث المعنى ، وكأنه لما قال : { والسارق والسارقة } فهم أن القطع من أجل السرقة .

                                                      وصحح سليم أنه من جهة اللفظ ; لأن اللام إما للعهد وهو مفقود ، فبقي أن يكون لاستغراق الجنس ، وذلك مأخوذ من اللفظ ، وشرط بعضهم لإفادته العموم أن يصلح أن يخلف اللام فيه " كل " كقوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } ولهذا صح الاستثناء منه .

                                                      والثاني : أنه يفيد تعريف الجنس ، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل ، [ ص: 134 ] وحكاه صاحب " المعتمد " عن أبي هاشم وحكاه صاحب " الميزان " عن أبي علي الفارسي النحوي ، واختاره الإمام فخر الدين وأتباعه ، وحكى بعض شراح " اللمع " عن الجبائي أنه على العهد ، ولا يقتضي الجنس ، قال : وحقيقة هذا القول أنه إذا لم يعرف عين المعهود صار مجملا ، لأنه لا يعرف المراد إلا بتفسير ، وهذا صفة المجمل .

                                                      والثالث : أنه مشترك يصلح للواحد والجنس ، ولبعض الجنس ، ولا يصرف إلى الكل إلا بدليل ، وحكاه الغزالي وقال الأستاذ أبو إسحاق : ذهب بعض أصحابنا إلى أنه مجمل يحكم بظاهره ، ويطلب دليل المراد به .

                                                      والرابع : التفصيل بين ما فيه الهاء ، وبين ما لا هاء فيه ، فما ليس فيه الهاء للجنس عند فقدانها ، وفي القسم الآخر التوقف ، ونقله الإبياري عن إمام الحرمين ، وقال : إنه الصحيح ، والذي في البرهان ونقله عنه المازري أنه إن تجرد عن عهد فللجنس ، نحو الزانية والزاني ، وإن لاح عدم قصد المتكلم للجنس فللاستغراق ، نحو الدينار أشرف من الدرهم ، وإن لم يعلم هل خرج على عهد أو إشعار بجنس فمجمل ، وأنه حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، وإنما ثبت عمومه ، وتناوله الجنس بحالة مقترنة معه مشعرة بالجنس .

                                                      الخامس : التفصيل بين أن يتميز لفظ الواحد فيه عن الجنس بالتاء كالتمر والتمرة ، فإذا عري عن التاء اقتضى الاستغراق ، كقوله عليه الصلاة والسلام : { لا تبيعوا البر بالبر ، والتمر بالتمر } قال في " المنخول " : [ ص: 135 ] وأنكره الفراء مستدلا بجواز جمعه على تمور ، ورد بأنه جمع على اللفظ لا المعنى . وإن لم تدخل فيه التاء للتوحيد ; فإن لم يتشخص مدلوله ، ولم يتعدد " كالذهب " فهو لاستغراق الجنس ، إذ لا يعبر عن أبعاضه بالذهب الواحد ، وإن تشخص مدلوله وتعدد كالدينار والرجل ، فيحتمل العموم ، نحو { لا يقتل المسلم بالكافر } ، ويحتمل تعريف الماهية ، ولا يحمل على العموم إلا بدليل ، وإنما : الجنس قولك ، الدينار أفضل من الدرهم بقرينة التسعير .

                                                      وهذا التفصيل ذكره الغزالي في " المستصفى " ، و " المنخول " ، واختاره الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد والمريسي ، ونازعه بعض المغاربة فيما ذكره في الدينار والرجل . وقال الحق ما حققه وهو في كتاب " معيار العلم " في الاسم المفرد إذ دخل عليه الألف واللام لتعريف الجنس ، فإنه أطلق فيه اقتضاءه الاستغراق بمجرده ، ولا يحتاج فيه إلى قرينة زائدة .

                                                      وقال في " المستصفى " : يحتمل كونها للعهد أو الجنس . وكأنه حقيقة فيهما ، وهذا تناقض . قال : والعموم فيه غير عموم الحكم لكل واحد ، [ ص: 136 ] فإن عموم الاسم المفرد إنما معناه أنه يدل على معنى يدخل تحته كثرة تشمله ، ويصح أن يخبر به عن كل واحد منها ، وهذا معنى كون المفرد كليا ، وأما العموم الآخر ، وهو عموم الحكم لكل واحد ، فلا يكون إلا في قول : كخبر ، أو أمر ، أو نهي ، مثل : الإنسان في خسر ، واقتلوا المشركين ، والحكم في قولك : خسر ، وكذلك القتل في الأمر . انتهى .

                                                      وحكى الإمام وابن القشيري عن بعض القائلين بصيغ العموم أن ما كان من أسماء الأجناس يجمع كالتمر والتمور ، فإن ذلك لا يقتضي الاستغراق ; لأن ذلك إنما يؤخذ منه حالة الجمع . قال الإمام : وهذا لا حاصل له ، فإن الاستغراق ثابت في أسماء الأجناس ، ويرد عليهم امتناع قول القائل : تمر واحد ، وهو أظهر من متعلقهم في الجمع .

                                                      وقد قال سيبويه : الناقة تجمع على نوق ، ثم النوق تجمع على نياق ، وهما من أبنية الكثرة ، ثم يجمع النياق على أينق هو ، وهو مقلوب آنق أو أنيق ، والأفعل من جمع القلة .

                                                      ثم قال الإمام : والحق أن التمر أقعد بالعموم من التمور ، لاسترساله على الآحاد لا بصيغة لفظية ، وأما التمور فإنه يرد إلى تخيل الوحدات ثم يجيء الاستغراق بعده من صيغة الجمع . قال شارحوه : يريد أن مطلق لفظ التمر بإزاء المعنى المشتمل للآحاد ، والتمر يلتفت فيه إلى الواحد ، فلا يحكم فيه على الحقيقة بل على أفرادها .

                                                      وحاصله أنه إذا قال : تمور ، فقد تخيل رده إلى الواحد عند إرادة الجمع ، وأراد دلالته على الجنس ، وهي غير مختلف فيها ، وصير دلالة الجنس إلى لفظ الجمع الذي فيه خلاف . وقوله : الجمع يرد إلى تخيل الوحدات ، ينبغي أن يضاف إليه . " المقصودة " ، وإلا فاسم الجنس يتخيل فيه [ ص: 137 ] الوحدات ، لكن آحاده غير مقصودة بخلاف الجمع ، وتمثيله بالتمر معرفا يؤخذ منه أن التمر مفرد ، وأن المفرد المعرف باللام يعم .

                                                      وقد اختلف في التمر : هل هو اسم جنس ، لأنه تميز به ، ولا تميز إلا بأسماء الأجناس ، أو جمع تمرة يفرق بين واحده وجمعه بالتاء ؟ والصواب : الأول ، فإن التمر لا يدل على أفراد مقصودة بالعدد وإنما يجمع إذا قصدت أنواعه لا أفراده ، فهو في أصل وضعه كماء .

                                                      وقد قرأ ابن عباس : ( كل آمن بالله وملائكته وكتابه ) وقال : " كتابه أكثر من كتبه " يريد أن كتابه ينصرف إلى جنس كتب الله المنزلة ، فدلالته أعم من كتبه ، لأن كتبه جمع .

                                                      قال الزمخشري : لأن الكتاب واحد نحي به نحو الجنس ، فهو أبلغ في العموم من الجمع ، فمعناه مفردا أدل على الاستغراق منه جمعا ، وفي قوله : نحى به نحو اسم الجنس ، ما يحتمل أن يريد غير اسم الجنس ، لأن ما نحي به نحو الشيء غير ذلك الشيء ، فيجوز أن يكون يرى أن تمرا اسم جمع لا جمع كرهط وقوم ، وهو قول ، ففي تمر إذن ثلاثة أقوال ، وقال في قوله تعالى : { والملك على أرجائها } إن الملك أعم من الملائكة ، وذكر هذا المعنى في مواضع .

                                                      واعلم أن هذا الخلاف نظير الخلاف السابق في الألف واللام الداخلة على الجمع ويزيد هاهنا مذاهب أخرى كما بينا .

                                                      وحاصله أن الألف واللام الداخلة على المفرد أو الجمع تفيد الاستغراق فيهما جميعا عند معظم الأصوليين ، إلا إذا كان معهودا .

                                                      والثاني : أنه لمطلق الجنس فيهما لا الاستغراق ، وهو أحد [ ص: 138 ] قولي أبي هاشم من المعتزلة .

                                                      والثالث : وهو قوله الآخر إنه في المفرد لمطلق الجنس ، وفي الجمع لمطلق الجمع ، لا للاستغراق إلا بدليل آخر .

                                                      وقال الزمخشري : إذا دخلت على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به ، وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه ، وإذا دخلت على الجمع صح أن يراد به جميع الجنس ، وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد ، وهذا منقوض بقوله تعالى : {لا يحل لك النساء من بعد } فإن الحرمة غير متوقفة على الجمع وقوله تعالى : { فنادته الملائكة } .

                                                      والصحيح ما ذهب إليه العامة بدليل قوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } والمراد به كل الجنس بدليل استثناء المؤمنين منه ، وكذلك قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } إلى قوله : { إلا الذين آمنوا } وقوله : { إن الإنسان خلق هلوعا } إلى قوله : { إلا المصلين } ، واستثناء المصلين دال على الاستغراق ، وكذلك قوله عليه السلام : { الحنطة بالحنطة } والمراد به كل جنس الحنطة ، ولنا [ ص: 139 ] في الجمع قوله تعالى : ( يأيها الناس ) والمراد به كل الجنس ، وكذا قوله : { والخيل والبغال والحمير } والمراد به الكل ، والمعقول في المسألة أن مطلق الجنس كان مستفادا قبل دخول اللام ، ولا بد لدخولها من فائدة ، وليس ذلك إلا الاستغراق .

                                                      والحاصل أن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس ، إما أن يقصد بها العهد فلا إشكال في عدم عمومه ، وإما أن يقصد بها تعريف اسم الجنس فلا إشكال في عمومه ، وإما أن يشكل الحال فهل يحمل على العموم أو العهد ؟ خلاف ، والصحيح التعميم ، وإما أن يقصد تعريف الماهية ، أي حقيقة الجنس مع قطع النظر عن الأفراد ، فهي لبيان الحقيقة .

                                                      ومنه قولك : الرجل أفضل من المرأة ، قال ابن القشيري في أصوله : هذا مما ترددوا فيه ، فقيل : لاستغراق الجنس . وقيل : لا واختار الإمام التفصيل بين أن يعرف هنا بناء على تنكير سابق ، مثل أن يقول : اقتل رجلا ثم يقول : اقتل الرجل ، فلا يقتضي العموم ، فإن قاله ابتداء فللجنس ، وإن لم يدر هل خرج تعريفا لنكرة سابقة أو إشعارا بالجنس ، فميل المعظم إلى أنه للجنس .

                                                      والحق عندنا أنه مجمل ، فإنه من حيث يعم لا يعم بصيغة اللفظ ، بل لاقتران حالة مشعرة بالجنس ، فإذا لم توجد لم يتجه إلى التوقف ، وإما أن يدخل للمح الصفة كالحسن والحسين ، أو للغلبة كالنجم للثريا ، فلا إشكال في عدم عمومها كغيرها من الأعلام .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية