الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 465 ] باب وفاته صلى الله عليه وسلم

                                                                                      قال أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري ونحري ، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض ، فذهبت أدعو به ، فرفع بصره إلى السماء وقال : " في الرفيق الأعلى ، في الرفيق الأعلى " ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده جريدة رطبة ، فنظر إليها ، فظننت أن له بها حاجة ، فأخذتها فنفضتها ودفعتها إليه ، فاستن بها أحسن ما كان مستنا ، ثم ذهب يناولنيها ، فسقطت من يده ، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا . رواه البخاري هكذا .

                                                                                      لم يسمعه ابن أبي مليكة ، من عائشة ، لأن عيسى بن يونس قال : عن عمر بن سعيد بن أبي حسين قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، أن ذكوان مولى عائشة أخبره ، أن عائشة كانت تقول : إن من نعمة الله علي أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي ، وفي يومي وبين سحري ونحري ، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت ، دخل علي أخي بسواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري ، فرأيته ينظر إليه ، وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه ، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فلينته له ، فأمره على فيه ، وبين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء ، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح وجهه ، ثم يقول : " لا إله إلا الله ، إن للموت سكرات " ، ثم نصب إصبعه اليسرى فجعل يقول : " في الرفيق الأعلى ، في الرفيق [ ص: 466 ] الأعلى " حتى قبض ، ومالت يده . رواه البخاري .

                                                                                      وقال حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قالت فاطمة : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي : يا أبتاه من ربه ما أدناه ، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه أجاب ربا دعاه . قال : وقالت : يا أنس ، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ؟ البخاري .

                                                                                      وقال يونس ، عن ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين سحري ونحري ، في بيتي وفي يومي ، لم أظلم فيه أحدا ، فمن سفاهة رأيي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في حجري ، فأخذت وسادة فوسدتها رأسه ووضعته من حجري ، ثم قمت مع النساء أبكي وألتدم . الالتدام : اللطم .

                                                                                      وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس أنه أتى عائشة ، فقالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بحجرتي ألقى إلي الكلمة تقر بها عيني ، فمر ولم يتكلم ، فعصبت رأسي ونمت على فراشي ، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما لك " ؟ قلت : رأسي ، فقال : " بل أنا وارأساه ، أنا الذي أشتكي رأسي " . وذلك حين أخبره جبريل أنه مقبوض ، فلبثت أياما ، ثم جيء به يحمل في كساء بين أربعة ، فأدخل علي ، فقال : يا عائشة أرسلي إلى النسوة ، فلما جئن قال : " إني لا أستطيع أن أختلف بينكن ، فأذن لي فأكون في بيت عائشة . قلن : نعم ، فرأيته يحمر وجهه ويعرق ، ولم أكن رأيت ميتا قط ، فقال : " أقعديني " ، فأسندته إلي ، ووضعت يدي عليه ، فقلب رأسه ، فرفعت [ ص: 467 ] يدي ، وظننت أنه يريد أن يصيب من رأسي ، فوقعت من فيه نقطة باردة على ترقوتي أو صدري ، ثم مال فسقط على الفراش ، فسجيته بثوب ، ولم أكن رأيت ميتا قط ، فأعرف الموت بغيره ، فجاء عمر يستأذن ، ومعه المغيرة بن شعبة ، فأذنت لهما ، ومددت الحجاب ، فقال عمر : يا عائشة ما لنبي الله ؟ قلت : غشي عليه منذ ساعة ، فكشف عن وجهه فقال : واغماه ، إن هذا لهو الغم ، ثم غطاه ، ولم يتكلم المغيرة ، فلما بلغ عتبة الباب ، قال المغيرة : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر ، فقال : كذبت ، ما مات رسول الله ، ولا يموت حتى يأمر بقتال المنافقين ، بل أنت تحوسك فتنة .

                                                                                      فجاء أبو بكر فقال : ما لرسول الله ؟ قلت : غشي عليه ، فكشف عن وجهه ، فوضع فمه بين عينيه ، ووضع يديه على صدغيه ، ثم قال : وانبياه ، واصفياه ، واخليلاه ، صدق الله ورسوله
                                                                                      ( إنك ميت وإنهم ميتون ( 30 ) ) [ الزمر ] ، ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ( 34 ) ) [ الأنبياء ] ، ( كل نفس ذائقة الموت ( 185 ) ) [ آل عمران ] ، ثم غطاه وخرج إلى الناس فقال : أيها الناس ، هل مع أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : لا . قال : من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، وقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ( 30 ) ) والآيات .

                                                                                      فقال عمر : أفي كتاب الله هذا يا أبا بكر ؟ قال : نعم . قال عمر : هذا أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وثاني اثنين فبايعوه ، فحينئذ بايعوه .

                                                                                      رواه محمد بن أبي بكر المقدمي عنه . ورواه أحمد في " مسنده " [ ص: 468 ] بطوله عن بهز بن أسد ، عن حماد بن سلمة قال : أخبرنا أبو عمران الجوني ، فذكره بمعناه .

                                                                                      وقال عقيل ، عن الزهري ، عن أبي سلمة قال : أخبرتني عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل ، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل علي ، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى ببرد حبرة ، فكشف عن وجهه ، ثم أكب عليه يقبله ، ثم بكى ، ثم قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها .

                                                                                      وحدثني أبو سلمة ، عن ابن عباس ، أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر ، فأبى ، فقال : اجلس ، فأبى . فتشهد أبو بكر ، فأقبل الناس إليه ، وتركوا عمر ، فقال أبو بكر : أما بعد ، فمن كان منكم يعبد محمدا فإنه قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، قال الله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ( 144 ) ) [ آل عمران ] الآية ، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم ، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها .

                                                                                      وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ففرقت ، أو قال : فعقرت حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى أهويت إلى الأرض ، وعرفت حين تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات . أخرجه البخاري .

                                                                                      وقال يزيد بن الهاد : أخبرني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن [ ص: 469 ] عائشة قالت : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي ، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا ، بعد ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حديث صحيح .

                                                                                      وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة قال : كان أسامة بن زيد قد تجهز للغزو وخرج ثقله إلى الجرف فأقام تلك الأيام لوجع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قد أمره على جيش عامتهم المهاجرون ، وفيهم عمر ، وأمره أن يغير على أهل مؤتة ، وعلى جانب فلسطين ، حيث أصيب أبوه زيد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذع في المسجد ، يعني صبيحة الاثنين ، واجتمع المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ، فدعا أسامة فقال : " اغد على بركة الله ، والنصر ، والعافية " . قال : بأبي أنت يا رسول الله ، قد أصبحت مفيقا ، وأرجو أن يكون الله قد شفاك ، فأذن لي أن أمكث حتى يشفيك الله ، فإن أنا خرجت على هذه الحال خرجت في قلبي قرحة من شأنك ، وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يراجعه ، وقام فدخل بيت عائشة ، وهو يومها ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة ، فقال : قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا ، وأرجو أن يكون الله قد شفاه ، ثم ركب أبو بكر فلحق بأهله بالسنح ، وهنالك امرأته حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري ، وانقلبت كل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتها ، وذلك يوم الاثنين .

                                                                                      ولما استقر صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة وعك أشد الوعك ، واجتمع إليه نساؤه ، واشتد وجعه ، فلم يزل بذلك حتى زاغت الشمس ، وزعموا أنه كان يغشى عليه ، ثم شخص بصره إلى السماء فيقول : " نعم في الرفيق الأعلى " ، وذكر الحديث ، إلى أن قال : فأرسلت عائشة إلى أبي بكر ، وأرسلت حفصة إلى عمر ، وأرسلت فاطمة إلى علي ، فلم يجتمعوا حتى [ ص: 470 ] توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة ، وفي يومها يوم الاثنين ، وجزع الناس ، وظن عامتهم أنه غير ميت ، منهم من يقول : كيف يكون شهيدا علينا ونحن شهداء على الناس ، فيموت ، ولم يظهر على الناس ، ولكنه رفع كما فعل بعيسى بن مريم ، فأوعدوا من سمعوا يقول : إنه قد مات ، ونادوا على الباب " لا تدفنوه فإنه حي " . وقام عمر يخطب الناس ويوعد بالقتل والقطع ، ويقول : إنه لم يمت وتواعد المنافقين ، والناس قد ملئوا المسجد يبكون ويموجون ، حتى أقبل أبو بكر من السنح
                                                                                      .

                                                                                      وقال يونس بن بكير ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، عن أم سلمة قالت : وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ، فمر بي جمع آكل وأتوضأ ، ما يذهب ريح المسك من يدي .

                                                                                      وقال ابن عون ، عن إبراهيم بن يزيد - هو التيمي - عن الأسود قال : قيل لعائشة : إنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي . وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها ، وأنا مسندته إلى صدري ، فانحنث فمات ، ولم أشعر فيم يقول هؤلاء إنه أوصى إلى علي . متفق عليه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية