الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الحادي والعشرون والمائة بين قاعدة من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا وبين قاعدة من انعقد له سبب المطالبة بالملك هل يعد مالكا أم لا )

اعلم أن جماعة من مشايخ المذهب رضي الله عنهم أطلقوا عبارتهم بقولهم من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا ؟ قولان ويخرجون على ذلك فروعا كثيرة في المذهب منها إذا وهب له الماء في التيمم هل يبطل تيممه بناء على أنه يعد مالكا أم لا يبطل بناء على أنه لا يعد مالكا ومن عنده ثمن رقبة هل يجوز له الانتقال للصوم في كفارة الظهار أم لا ؟ قولان مبنيان على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا ومن قدر على المداواة في السلس أو التزويج هل يجب عليه الوضوء أم لا ؟ قولان بناء على أن من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا وكثير من هذه الفروع زعموا أنها مخرجة على هذه القاعدة وليس الأمر كذلك بل هذه القاعدة باطلة وتلك الفروع لها مدارك غير ما ذكروه .

وبيان بطلانها أن الإنسان يملك أن يملك أربعين شاة فهل يتخيل أحد أنه يعد مالكا الآن قبل شرائها حتى تجب الزكاة عليه على أحد القولين .

وإذا كان الآن قادرا على أن يتزوج فهل يجري في وجوب الصداق والنفقة عليه ؟ قولان قبل أن يخطب المرأة لأنه ملك أن يملك عصمتها والإنسان مالك أن يملك خادما أو دابة فهل يقول أحد إنه يعد الآن مالكا لهما فيجب عليه كلفتهما ومئونتهما على قول من الأقوال الشاذة أو الجادة بل هذا لا يتخيله من عنده أدنى مسكة من العقل والفقه وكذلك الإنسان يملك أن يشتري أقاربه فهل يعده أحد من الفقهاء مالكا لقريبه فيعتقه عليه قبل شرائه على أحد القولين في هذه القاعدة على زعم من اعتقدها بل هذا كله باطل بالضرورة ونظائر هذه الفروع كثيرة لا تعد ولا تحصى ولا يمكن أن نجعل هذه [ ص: 21 ] من قواعد الشريعة ألبتة بل القاعدة التي يمكن أن تجعل قاعدة شرعية ويجري فيها الخلاف في بعض فروعها لا في كلها أن من جرى له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك هل يعطى حكم من ملك ، وملك قد يختلف في هذا الأصل في بعض الفروع ولذلك مسائل : المسألة الأولى إذا حيزت الغنيمة فقد انعقد للمجاهدين سبب المطالبة بالقسمة والتمليك فهل يعدون مالكين لذلك أم لا ؟ قولان فقيل يملكون بالحوز والأخذ وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه وقيل لا يملكون إلا بالقسمة وهو مذهب مالك رحمه الله : المسألة الثانية العامل في القراض وجد في حقه سبب يقتضي المطالبة بالقيمة وإعطاء نصيبه من الربح فهل يعد مالكا بالظهور أو لا يملك إلا بالقسمة وهو المشهور قولان في المذهب : المسألة الثالثة العامل في المساقاة وجد في حقه من العمل ما يقتضي المطالبة بالقسمة وتمليك نصيبه من الثمن فهل لا يملك إلا بالقسمة أو يملك بالظهور .

وهو المشهور على عكس القراض ؟ قولان في المذهب : المسألة الرابعة الشريك في الشفعة إذا باع شريكه تحقق له سبب يقتضي المطالبة بأن يملك الشقص المبيع بالشفعة .

ولم أر خلافا في أنه غير مالك : المسألة الخامسة الفقير وغيره من المسلمين له سبب يقتضي أن يملك من بيت المال ما يستحقه بصفة فقره أو غير ذلك من الصفات الموجبة للاستحقاق كالجهاد والقضاء والفتيا والقسمة بين الناس أملاكهم وغير ذلك مما شأن الإنسان أن يعطى لأجله فإذا سرق هل يعد كالمالك فلا يجب عليه الحد لوجود سبب المطالبة بالتمليك أو يجب عليه القطع لأنه لا يعد مالكا وهو المشهور ؟ قولان فهذه القاعدة على ما فيها من القوة من جهة قولنا جرى له سبب التمليك في تمشيتها عسر لأجل كثرة النقوض عليها أما هذا المفهوم وهو قولنا من ملك أن يملك مطلقا من غير جريان سبب يقتضي مطالبته بالتمليك ولا غير ذلك من القيود فهذا جعله قاعدة شرعية ظاهر البطلان لضعف المناسبة جدا أو لعدمها ألبتة .

أما إذا قلنا انعقد له سبب يقتضي المطالبة بالتمليك فهو مناسب لأن يعد مالكا من حيث الجملة تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب وإقامة للسبب البعيد مقام السبب القريب فهذا يمكن أن يتخيل وقوعه قاعدة في الشريعة أما مجرد ما ذكروه فليس فيه إلا مجرد الإمكان والقبول للملك وذلك في غاية البعد عن المناسبة فلا يمكن جعله قاعدة وتتخرج تلك الفروع بغير هذه القاعدة ففي الثوب للسترة يلاحظ فيها قوة المالية فلا يلزمه أو أنه أعانه على دين الله عز وجل ليس من باب تحصيل الأموال فيلزمه ويكافئ عنه إن شاء .

وكذلك القول في الماء يوهب له هل ينظر إلى يسارته فلا منة [ ص: 22 ] أو يلاحظ المالية .

وهي ضرر والضرر منفي عن المكلف لقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } ولقوله عز وجل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وواجد الثمن يخرج على تنزيل وسيلته منزلته أم لا وكذلك القادر على التداوي إلى غير ذلك من النصوص والأقيسة والمناسبات التي اشتهرت في الشرع اعتبارها وهي مشتملة على موجب الاعتبار أما ما لا يشتمل على موجب الاعتبار فلا يمكن جعله قاعدة شرعية بل ينبغي أن يضاف إليه من القيود الموجبة للمناسبة كما تقدم ما يوجب اشتماله على موجب الاعتبار ونقل النقوض عليه وتظهر مناسبته أما عدم المناسبة وكثرة النقوض فاعتبار مثل هذا من غير ضرورة خلاف المعلوم من نمط الشريعة فتأمل ذلك فإنه قد كثر بين المتأخرين خصوصا الشيخ أبا الطاهر بن بشير فإنه اعتمد عليه في كتابه المعروف بالتنبيه كثيرا .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الحادي والعشرون والمائة بين قاعدة من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا وبين قاعدة من انعقد له سبب المطالبة بالملك هل يعد مالكا أم لا )

قلت ما نسبه إلى مشايخ من أهل المذهب واعتقده فيهم من أنهم أرادوا مقتضى عبارتهم المطلقة ليس بصحيح وما اختاره من عدم إرادة مقتضى الإطلاق هو الصحيح والظن بهم أنهم إنما أرادوا ذلك والله تعالى أعلم وما قاله في الفرقين بعد هذا صحيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 21 - 22 ] الفرق الحادي والعشرون والمائة بين قاعدة من ملك أن يملك هل يعد مالكا أم لا وبين قاعدة من انعقد له سبب المطالبة بالملك هل يعد مالكا أم لا ) القاعدة الأولى وإن أطلقها جماعة من مشايخ المذهب رضي الله عنهم بقولهم من ملك أن [ ص: 34 ] يملك هل يعد مالكا أم لا قولان وخرجوا عليها فروعا كثيرة في المذهب .

( منها ) إذا وهب له الماء في التيمم هل يبطل تيممه بناء على أنه يعد مالكا أم لا يبطل بناء على أنه لا يعد مالكا ومنها من عنده ثمن رقبة هل يجوز له الانتقال للصوم في كفارة الظهار بناء على أنه لا يعد مالكا أم لا يجوز له بناء على أنه يعد مالكا ومنها من قدر على المداواة في السلس أو التزويج هل يجب عليه الوضوء بناء على أنه يعد مالكا أم لا يجب عليه الوضوء بناء على أنه لا يعد مالكا إلا أنها باطلة إذ لا يمكن جعل مجرد الإمكان والقبول للملك بدون أن يشتمل على موجب الاعتبار قاعدة شرعية ألا ترى أن أحدا لا يتخيل أن الإنسان إذا كان قادرا على أن يملك أربعين شاة هل يعد قبل شرائها مالكا لها فتجب الزكاة عليه على القولين أو قادرا على أن يتزوج هل يعد قبل أن يخطب المرأة مالكا عصمتها أم لا فيجب عليه الصداق والنفقة أم لا على القولين أو قادرا على أن يملك خادما أو دابة هل يعد قبل شرائهما مالكا لهما أم لا فيجب عليه كلفتهما ومؤنتها أم لا على القولين أو قادرا على أن يشتري أقاربه هل يعده أحد من الفقهاء مالكا لقريبه فيعتقه عليه قبل شرائه على أحد القولين في هذه القاعدة على زعم من اعتقدها بل هذا كله باطل بالضرورة لا يتخيله من عنده أدنى مسكة من العقل والفقه والظن بالمشايخ من أهل المذهب أنهم لم يريدوا مقتضى عبارتهم المطلقة وأن من ملك أن يملك مطلقا من غير جريان سبب يقتضي مطالبته بالتمليك ولا غير ذلك من القيود لأن جعل هذه القاعدة شرعية ظاهر البطلان لضعف المناسبة جدا أو لعدمها ألبتة وإنما أرادوا أن من ملك أن يملك مع جريان سبب يقتضي مطالبته بالتمليك أي من انعقد له سبب المطالبة بالملك فيرجع بذلك إلى القاعدة الثانية حتى يكون مناسبا لأن يعد مالكا من حيث الجملة تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب وإقامة للسبب البعيد مقام السبب القريب فيمكن أن يتخيل وقوعه قاعدة من الشريعة على أن في تمشية القاعدة الثانية مع ما فيها [ ص: 35 ] من القوة عسرا من جهة قولنا جرى له سبب التمليك لأجل كثرة النقوض عليها فلذا لم يختلف قول مالك وغيره رحمهم الله تعالى إلا في بعض فروعها كما يتضح لك ذلك بمسائل ( المسألة الأولى )

إذا حيزت الغنيمة وانعقد للمجاهدين سبب المطالبة بالقسمة والتمليك فقيل يملكون بمجرد الحوز والأخذ وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وقيل لا يملكون إلا بالقسمة وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى ( المسألة الثانية )

إذا وجد الظهور بالعمل في حق عامل القراض وانعقد له سبب المطالبة بالقسمة وإعطاء نصيبه من الربح فهل يعد مالكا بمجرد الظهور أم لا يملك إلا بالقسمة ؟ قولان في المذهب والمشهور الثاني ( المسألة الثالثة )

إذا وجد ظهور عامل المساقاة بالعمل وانعقد له سبب المطالبة بالقسمة وتمليك نصيبه من الثمن فهل يعد مالكا بمجرد الظهور أو لا يملك إلا بالقسمة قولان في المذهب المشهور الأول على عكس القراض ( المسألة الرابعة )

قال الأصل لم أر خلافا في أن الشريك إذا باع شريكه شقصه على الغير وتحقق له ما يقتضي سبب المطالبة بأن يملك الشقص المبيع بالشفعة لا يكون مالكا إلا بأخذه بالشفعة بالفعل ( المسألة الخامسة )

من له من المسلمين سبب يقتضي أن يملك به من بيت المال بأن يتصف بصفة من الصفات الموجبة للاستحقاق منه كالفقر والجهاد والقضاء والفتيا والقسمة بين الناس أملاكهم وغير ذلك مما شأن الإنسان أن يعطى لأجله فإذا سرق هل يعد كالمالك فلا يجب عليه الحد لوجود سبب المطالبة بالتمليك أو يجب عليه القطع لأنه لا يعد مالكا وهو المشهور قولان .

وأما الفروع المخرجة على القاعدة الأولى فلها مدارك غير ذلك التخريج بأن يلاحظ في الثوب للسترة قوة المالية فلا يلزمه أو أنه إعانة على دين الله تعالى عز وجل ليس من باب تحصيل الأموال فيلزمه ويكافئ عنه إن شاء وفي الماء يوهب له إما يسارته فلا منة وإما المالية المؤدية للمنة وهي ضرر والضرر منفي عن المكلف لقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } ولقوله عز وجل { وما جعل [ ص: 36 ] عليكم في الدين من حرج } وفي واجد ثمن الرقبة في كفارة الظهار إما تنزيل وجود الثمن الذي هو وسيلة ملكها منزلته وإما عدم تنزيله منزلته وفي القادر على التداوي من السلس أو التزويج إما أن تنزل قدرته على ذلك التي هي وسيلة التداوي بالفعل منزلته أم لا أو يلاحظ غير ذلك من النصوص وإلا فيه والمناسبات التي اشتهر في الشرع اعتبارها من حيث اشتمالها على موجب الاعتبار لا ما لا يمكن اعتباره شرعا مما لا يشتمل على موجب الاعتبار فتقدم مناسبته وتكثر النقوض عليه ويكون اعتباره من غير ضرورة خلاف المعلوم من نمط الشريعة إلا أن يضاف إليه ما يوجب اشتماله على موجب الاعتبار من القيود الموجبة للمناسبة فتظهر مناسبته وتقل النقوض عليه ويكون اعتبار مثله بلا ضرورة وهو المعلوم من نمط الشريعة فتأمل ذلك فإنه قد كثر بين المتأخرين خصوصا الشيخ الطاهر بن بشير فإنه اعتمد عليه في كتابه المعروف بالتنبيه كثيرا والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية