الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب صفة الوضوء وكماله

                                                                                                                226 حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى التجيبي قالا أخبرنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد الليثي أخبره أن حمران مولى عثمان أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات ثم مضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه قال ابن شهاب وكان علماؤنا يقولون هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة [ ص: 460 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 460 ] باب صفة الوضوء وكماله

                                                                                                                فيه ( حرملة التجيبي ) هو بضم التاء وفتحها ، وقد تقدم بيانه في أول الكتاب في مواضع . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد أخبره أن حمران أخبره ) هؤلاء ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض ، و ( حمران ) بضم الحاء ، قوله : ( فغسل كفيه ثلاث مرات ) هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة ، وهو كذلك باتفاق العلماء .

                                                                                                                وقوله : ( ثم تمضمض واستنثر ) قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون : الاستنثار هو : إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق ، وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة : الاستنثار : الاستنشاق ، والصواب الأول ، ويدل عليه الرواية الأخرى : ( استنشق واستنثر ) فجمع بينهما . قال أهل اللغة : هو مأخوذ من ( النثرة ) وهي طرف الأنف ، وقال الخطابي وغيره : هي الأنف ، والمشهور الأول ، قال الأزهري : روى سلمة عن الفراء أنه يقال : نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة . والله أعلم .

                                                                                                                وأما حقيقة المضمضة ; فقال أصحابنا : كمالها أن يجعل الماء في فمه ثم يديره فيه ثم يمجه ، وأما أقلها فأن يجعل الماء في فيه ، ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور ، وقال جماعة من أصحابنا : يشترط ، وهو مثل الخلاف في مسح الرأس أنه لو وضع يده المبتلة على رأسه ولم يمرها هل يحصل المسح ؟ والأصح الحصول ، كما يكفي إيصال الماء إلى باقي الأعضاء من غير ذلك ، وأما الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه ، ويستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما فيكره ذلك ; لحديث لقيط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ، وهو حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، قال أصحابنا : وعلى أي صفة وصل الماء إلى الفم والأنف ; حصلت المضمضة والاستنشاق . وفي الأفضل خمسة أوجه الأول : يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها ، والوجه الثاني : يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا ، والوجه الثالث : يجمع أيضا بغرفة ، ولكن يتمضمض منها ، ثم يستنشق ، ثم يتمضمض منها ، ثم يستنشق ثم يتمضمض منها ، ثم يستنشق ، والرابع : يفصل بينهما بغرفتين فيتمضمض من إحداهما ثلاثا ، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا ، والخامس : يفصل بست غرفات يتمضمض بثلاث غرفات ، ثم يستنشق بثلاث غرفات .

                                                                                                                والصحيح الوجه الأول ، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما . وأما حديث الفصل فضعيف ، فيتعين المصير إلى الجمع بثلاث غرفات كما ذكرنا لحديث عبد الله بن زيد المذكور في الكتاب ، واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق وعلى كل صفة ، وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط فيه وجهان : أظهرهما اشتراط لاختلاف العضوين ، والثاني : استحباب كتقديم يده اليمنى على اليسرى . والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 461 ] قوله : ( ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ) هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء ، وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة ، وعلى أن الثلاث سنة ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة ، وثلاثا ثلاثا وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين وبعضها مرة ، قال العلماء : فاختلافها دليل على جواز ذلك كله ، وأن الثلاث هي الكمال والواحدة تجزئ ، فعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث . وأما اختلاف الرواة فيه عن الصحابي الواحد في القصة الواحدة فذلك محمول على أن بعضهم حفظ وبعضهم نسي ، فيؤخذ بما زاد الثقة ، كما تقرر في قبول زيادة الثقة الضابط ، واختلف العلماء في مسح الرأس فذهب الشافعي في طائفة إلى أنه يستحب فيه المسح ثلاث مرات كما في باقي الأعضاء ، وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والأكثرون إلى أن السنة مرة واحدة ولا يزاد عليها . والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة ، وفي بعضها الاقتصار على قوله : ( مسح ) ، واحتج الشافعي بحديث عثمان - رضي الله عنه - الآتي في صحيح مسلم ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا ) وبما رواه أبو داود في سننه ( أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ثلاثا ) وبالقياس على باقي الأعضاء وأجاب عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز . وواظب - صلى الله عليه وسلم - على الأفضل والله أعلم .

                                                                                                                وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين واستيعاب جميعهما بالغسل ، وانفردت الرافضة عن العلماء فقالوا : الواجب في الرجلين المسح ، وهذا خطأ منهم ، فقد تظاهرت النصوص بإيجاب غسلهما ، وكذلك اتفق كل من نقل وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه غسلهما ، وأجمعوا على وجوب مسح الرأس ، واختلفوا في قدر الواجب فيه ; فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما يطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة ، وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه ، وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - في رواية : الواجب ربعه ، واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب أحدها : مذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل ، وذهب إليه من السلف الحسن البصري والزهري والحكم وقتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي والليث بن سعد ، وهو رواية عن عطاء وأحمد ، والمذهب الثاني : أنهما واجبتان في الوضوء والغسل لا يصحان إلا بهما ، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق بن راهويه ورواية عن عطاء ، والمذهب الثالث : أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري ، والمذهب الرابع : أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل ، والمضمضة سنة فيهما ، وهو مذهب أبي ثور وأبي عبيدة وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد . والله أعلم .

                                                                                                                واتفق الجمهور على أنه يكفي [ ص: 462 ] في غسل الأعضاء في الوضوء والغسل جريان الماء على الأعضاء . ولا يشترط الدلك ، وانفرد مالك والمزني باشتراطه . والله أعلم .

                                                                                                                واتفق الجماهير على وجوب غسل الكعبين والمرفقين وانفرد زفر وداود الظاهري بقولهما : لا يجب . والله أعلم .

                                                                                                                واتفق العلماء على أن المراد بالكعبين : العظمان الناتئان بين الساق والقدم وفي كل رجل كعبان ، وشذت الرافضة فقالت : في كل رجل كعب وهو العظم الذي في ظهر القدم ، وحكي هذا عن محمد بن الحسن ، ولا يصح عنه ، وحجة العلماء في ذلك نقل أهل اللغة والاشتقاق ، وهذا الحديث الصحيح الذي نحن فيه وهو قوله ( فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ورجله اليسرى كذلك ) فأثبت في كل رجل كعبين والأدلة في المسألة كثيرة ، وقد أوضحتها بشواهدها وأصولها في المجموع في شرح المهذب ، وكذلك بسطت فيه أدلة هذه المسائل واختلاف المذاهب وحجج الجميع من الطوائف وأجوبتها والجمع بين النصوص المختلفة فيها ، وأطنبت فيها غاية الإطناب ، وليس مرادي هنا إلا الإشارة إلى ما يتعلق بالحديث . والله أعلم .

                                                                                                                وقال أصحابنا : ولو خلق للإنسان وجهان وجب غسلهما ، ولو خلق له ثلاثة أيد أو أرجل أو أكثر وهي متساويات وجب غسل الجميع ، وإن كانت اليد الزائدة ناقصة وهي نابتة في محل الفرض وجب غسلها مع الأصلية ، وإن كانت نابتة فوق المرفق ولم تحاذ محل الفرض لم يجب غسلها ، وإن حاذته وجب غسل المحاذي خاصة على المذهب الصحيح المختار ، وقال بعض أصحابنا : لا يجب ، ولو قطعت يده من فوق المرفق فلا فرض عليه فيها ، ويستحب أن يغسل بعض ما بقي لئلا يخلو العضو من طهارة ، فلو قطع بعض الذراع وجب غسل باقيه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه ) إنما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( نحو وضوئي ) ولم يقل ( مثل ) ; لأن حقيقة مماثلته - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليها غيره ، والمراد بالغفران : الصغائر دون الكبائر ، وفيه : استحباب صلاة ركعتين فأكثر عقب كل وضوء وهو سنة مؤكدة ، قال جماعة من أصحابنا : ويفعل هذه الصلوات في أوقات النهي وغيرها لأن لها سببا ، واستدلوا بحديث بلال - رضي الله عنه - المخرج في صحيح البخاري : أنه كان متى توضأ صلى وقال : إنه أرجى عمل له ، ولو صلى فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك . والله أعلم .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يحدث فيهما نفسه ) ، فالمراد لا يحدث بشيء من أمور الدنيا وما لا يتعلق بالصلاة ، ولو عرض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عن ذلك وحصلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى ; لأن هذا ليس من فعله ، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر ، وقد تقدم بيان هذه القاعدة في كتاب الإيمان . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                وقد قال معنى ما ذكره الإمام أبو عبد الله المازري وتابعه عليه القاضي عياض فقال : يريد بحديث النفس : الحديث المجتلب [ ص: 463 ] والمكتسب ، وأما ما يقع في الخواطر غالبا فليس هو المراد ، قال : وقوله : ( يحدث نفسه ) فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يكتسب لإضافته إليه ، قال القاضي عياض . وقال بعضهم : هذا الذي يكون بغير قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة ويكون دون صلاة من لم يحدث نفسه بشيء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ضمن الغفران لمراعي ذلك لأنه قل من تسلم صلاته من حديث النفس ، وإنما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه ومحافظته عليها حتى لم يشتغل عنها طرفة عين ، وسلم من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه . هذا كلام القاضي والصواب ما قدمته . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( قال ابن شهاب : وكان علماؤنا يقولون هذا أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة ) معناه هذا أتم الوضوء ، وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث ، والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو ، وأما إذا لم تستوعب العضو إلا بغرفتين فهي غسلة واحدة ، ولو شك هل غسل ثلاثا أم اثنتين ؟ جعل ذلك اثنتين وأتى بثالثة ، هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا ، وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : يجعل ذلك ثلاثا ولا يزيد عليها مخافة من ارتكاب بدعة بالرابعة ، والأول هو الجاري على القواعد ، وإنما تكون الرابعة بدعة ومكروهة إذا تعمد كونها رابعة . والله أعلم .

                                                                                                                وقد يستدل بقول ابن شهاب هذا من يكره غسل ما فوق المرفقين والكعبين ، وليس ذلك بمكروه عندنا بل هو سنة محبوبة ، وسيأتي بيانها في بابها إن شاء الله تعالى ، ولا دلالة في قول ابن شهاب على كراهته ; فإن مراده العدد كما قدمناه ، ولو صرح ابن شهاب أو غيره بكراهة ذلك كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة مقدمة عليه والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية