الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      شأن أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما

                                                                                      قال الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه ، فقال لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " فغضبت وهجرت أبا بكر حتى توفيت .

                                                                                      وأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن مما أفاء الله على رسوله ، حتى كنت أنا رددتهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ؟ ألم تسمعن من رسول الله يقول : " لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال " .

                                                                                      وقال أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة " .

                                                                                      [ ص: 35 ] وقال محمد بن السائب - وهو متروك - عن أبي صالح مولى أم هانئ ، أن فاطمة دخلت على أبي بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، أرأيت لو مت اليوم من كان يرثك ؟ قال : أهلي وولدي . فقالت : مالك ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون أهله وولده ؟ فقال : ما فعلت يا ابنة رسول الله . قالت : بلى ؛ قد عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتها ، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته منا ، فقال : لم أفعل ، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يطعم النبي الطعمة ما كان حيا فإذا قبضه رفعها . قالت : أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم ، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي هذا .

                                                                                      ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل ، قال : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت وريث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله ؟ فقال : لا ، بل أهله . قالت : فأين سهمه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده " فرأيت أن أرده على المسلمين . قالت : أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم .

                                                                                      رواه أحمد في " مسنده " ، وهو منكر ، وأنكر ما فيه قوله : " لا ، بل أهله " .

                                                                                      وقال الوليد بن مسلم ، وعمر بن عبد الواحد : حدثنا صدقة أبو معاوية ، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس أن فاطمة أتت أبا بكر فقالت : قد علمت الذي خلفنا عنه من الصدقات أهل البيت . ثم قرأت عليه واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال ] إلى آخر [ ص: 36 ] الآية ، فقال لها : بأبي وأمي أنت ووالدك وولدك ، وعلي السمع والصبر ، كتاب الله وحق رسوله وحق قرابته ، أنا أقرأ من كتاب الله مثل الذي تقرئين ، ولا يبلغ علمي فيه أن أرى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السهم كله من الخمس يجري بجماعته عليهم ، قالت : أفلك هو ولقرابتك ؟ قال : لا ، وأنت عندي أمينة مصدقة ، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهدا ، ووعدك موعدا ، أوجبه لك حقا ، صدقتك وسلمته إليك ، قالت : لا ؛ إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه في ذلك قال : أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى ، فقال أبو بكر : صدقت فلك الغنى ، ولم يبلغ علمي فيه ولا بهذه الآية أن يسلم هذا السهم كله كاملا ، ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم ، ويفضل عنكم ، فانظري هل يوافقك على ذلك أحد منهم ، فانصرفت إلى عمر فذكرت له كما ذكرت لأبي بكر ، فقال لها مثل الذي راجعها به أبو بكر ، فعجبت وظنت أنهما قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه .

                                                                                      وبالإسناد إلى محمد بن عبد الله - من دون ذكر الوليد بن مسلم قال : حدثني الزهري ، قال : حدثني من سمع ابن عباس يقول : كان عمر عرض علينا أن يعطينا من الفيء بحق ما يرى أنه لنا من الحق ، فرغبنا عن ذلك ، وقلنا : لنا ما سمى الله من حق ذي القربى ، وهو خمس الخمس ، فقال عمر : ليس لكم ما تدعون لكم حق ، إنما جعل الله الخمس لأصناف سماهم ، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عيالا . قال : فكان عمر يعطي من قبل منا من الخمس والفيء نحو ما يرى أنه لنا ، فأخذ ذلك منا ناس وتركه ناس .

                                                                                      [ ص: 37 ] وذكر الزهري أن مالك بن أوس بن الحدثان الناصري قال : كنت عند عمر رضي الله عنه فقال لي : يا مالك ، إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات ، وقد أمرت فيهم برضخ فاقسمه بينهم ، قلت : لو أمرت به غيري ، قال : اقبضه أيها المرء ، قال : وأتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، والزبير ، وعبد الرحمن ، وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم . فدخلوا وسلموا وجلسوا ، ثم لبث يرفأ قليلا ، ثم قال لعمر : هل لك في علي والعباس ؟ قال : نعم ؛ فلما دخلا سلما فجلسا ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الظالم الفاجر الغادر الخائن ، فاستبا ، فقال عثمان وغيره : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال : فإني أحدثكم عن هذا الأمر : إن الله كان قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره ، فقال تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء [ الحشر ] فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله . أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم . ثم توفى الله نبيه ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها وعمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وأنتما تزعمان أن أبا بكر فيها كاذب فاجر غادر ، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد ، ثم توفاه الله ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر ، فقبضتها سنتين من إمارتي ، أعمل [ ص: 38 ] فيها بعمله ، وأنتم حينئذ ، وأقبل علي علي وعباس يزعمون أني فيها كاذب فاجر غادر ، والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتني تسألني عن نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا يسألني عن نصيب امرأته من أبيها ، فقلت لكما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها أبو بكر ، وإلا فلا تكلماني ، فقلتما : ادفعها إلينا بذلك ، فدفعتها إليكما ، أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك ؟ قال الرهط : نعم ؛ فأقبل علي علي وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم . قال : أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها .

                                                                                      قال الزهري : وحدثني الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفسي بيده لا يقتسم ورثتي شيئا مما تركت ، ما تركنا صدقة " فكانت هذه الصدقة بيد علي غلب عليها العباس ، وكانت فيها خصومتهما ، فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها عباس غلبه عليها علي ، ثم كانت على يدي الحسن ، ثم كانت بيد الحسين ، ثم بيد علي بن الحسين والحسن بن الحسن ، كلاهما يتداولانها ، ثم بيد زيد ، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا .

                                                                                      [ ص: 39 ]

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية