الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يقتله المحرم قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان خاصا في صيد البر دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص ، اقتضى عمومه تحريم سائر صيد البر إلا ما خصه الدليل . وقد روى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم : الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور على اختلاف منهم في بعضها ، وفي بعضها : ( هن فواسق ) . وروي عن أبي هريرة قال : ( الكلب العقور الأسد ) . وروى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال : سمعت ابن عمر يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحدأة . فذكر في هذا الحديث الذئب . وذكر القعنبي عن مالك قال : ( الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم ، مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور ، وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهرة وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم ، فإن قتل منهن شيئا فداه ) . قال أبو بكر : قد تلقى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم .

وقد اختلف في الكلب العقور ، فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه : ( إنه الأسد ) ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : أكلك كلب الله فأكله الأسد . قيل له : إن الكلب العقور هو الذئب . وروي في بعض أخبار ابن عمر في موضع ( الكلب ) ( الذئب ) ، ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلبا من شأنه العدو على الناس وعقرهم ، وهذه صفة الذئب ، فأولى الأشياء بالكلب هاهنا الذئب . وقد دل على أن كل ما عدا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدل عليه ، وكذلك قال أصحابنا فيمن ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه ، وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء ؛ لعموم قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم

واسم الصيد واقع على كل ممتنع الأصل متوحش ، [ ص: 132 ] ولا يختص بالمأكول منه دون غيره ، ويدل عليه قوله تعالى : ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم فعلق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا ، ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل . ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور ، فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذكره للكلب العقور دليلا على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى من الصيد فمباح للمحرم قتله ؛ لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى ، فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدئ في حال ؛ لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعم الأكثر ، ولا حكم للشاذ النادر . ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعقر والأذى ، وإن كان الذئب فذلك من شأنه في الأغلب ؛ فما خصه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية ، وما لم يخصه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها . ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم .

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، والضبع من ذي الناب من السباع وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها كبشا .

فإن قيل : هلا قست على الخمس ما كان في معناها وهو ما لا يؤكل لحمه قيل له : إنما خص هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية ، وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خص ، فلما لم تكن للخمس علة مذكورة فيها لم يجز القياس عليها في تخصيص عموم الأصل . وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدئ الإنسان بالأذى من السباع ، وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فحوى الخبر ولا علته مذكورة فيه ، فلم يجز اعتباره . وأيضا فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء ، فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع . ومن أصحابنا من يأبى القياس في مثله ؛ لأنه حصره بعدد فقال خمس يقتلهن المحرم وفي ذلك دليل على أن ما عداه محظور ، فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ . ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول ؛ لأن ذلك نفي والنفي لا يكون علة ، وإنما العلل أوصاف ثابتة في الأصل المعلول ، وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علة . فإن غير الحكم بإثبات وصف وجعل العلة أنه محرم الأكل لم يصح ذلك أيضا ؛ لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل ، فلم يخل من أن يكون نافيا للصفة ، فلم يصح الاعتلال بها . [ ص: 133 ] وزعم الشافعي أن ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية