الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا يجوز من النساء على الرضاع أقل من أربع حرائر بوالغ عدول ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ؛ لأن الله تعالى لما أجاز شهادتهن في الدين جعل امرأتين يقومان مقام رجل " . قال الماوردي : اختلف الفقهاء في عدد النساء فيما يشهدون فيه منفردات على أربعة مذاهب : أحدها : وهو مذهب الشافعي وعطاء ، أنه لا يقبل منهن أقل من أربع . والثاني : وهو مذهب الحسن البصري وعثمان البتي ، أنه يقبل منهن ثلاث . والثالث : وهو مذهب مالك أنه يقبل فيه امرأتان . والرابع : وهو مذهب الأوزاعي أنه يقبل منه شهادة الواحدة . واحتج من اعتبر الثلاث بأن الرجل والمرأتين بينة كاملة ، وقد أقيم النساء في هذا الموضع مقام الرجال فأبدل الرجل بامرأتين فصرن ثلاثا . واحتج من اعتبر شهادة امرأتين بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن امرأة شهدت عنده أنها أرضعت رجلا وامرأة فقال : اطلبوا لي معها أخرى ، ولم يفسخ النكاح ، ولأنهن قد أقمن مقام الرجال فاقتصر منهن على عدد الرجال . واحتج من قبل شهادة الواحدة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع شهادة القائلة : ولأنه لما اقتصر على قبول النساء للضرورة قبلت الواحدة ، لأجل الضرورة . والدليل على أنه لا يجوز أن يقبل منهن أقل من أربع قول الله تعالى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] وفيه تأويلان : أحدهما : أن يجعلها كالذكر . والثاني : أن تذكرها إذا نسيت فلما أقام المرأتين مقام الرجل لم يقبل من الرجال أقل من اثنين ، وجب أن لا يقبل من النساء أقل من أربع ، ولأن الشهادة إذا كان للنساء فيها مدخل لم يقتصر على شهادة الواحد كالأموال . فأما شهادة القابلة فالجواب عنه يأتي . [ ص: 403 ] فإن قيل : قد روى ابن أبي مليكة عن أبي مريم قال : تزوجت امرأة فجاءت سوداء ، فقالت : إني أرضعتكما فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقلت : إن السوداء قالت كذا ، وهي كاذبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعها لا خير لك فيها . قيل عنه ثلاثة أجوبة : أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ، وقال : وكيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما وذلك لا يدل على الحكم بشهادتها في الإمضاء ، ولا في الرد ، وأجراه فجرى الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فلم يقطع بأحدهما . والثاني : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : دعها لا خير لك فيها طريقه طريق الاختيار والاستحباب دون الالتزام والإيجاب ؛ لقوله لا خير لك فيها ولو حرمت لأخبره بتحريمها . والثالث : أن السوداء التي شهدت كانت أمة وشهادة الأمة غير مقبولة ، وقد روى الحديث على سياقه ابن جريج عن ابن أبي مليكة أن عقبة بن الحارث أخبره أنه نكح أم يحيى بنت أبي إهاب فقالت له أمة سوداء : قد أرضعتكما ، قال : فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عنها ، قال : فجئت فذكرت ذلك له فقال : وكيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما ، قال : فنهى عنها . فدل على أن النهي لم يكن للشهادة وإنما كان للاحتياط . فإن قيل : فقد روى محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عما يجوز في الرضاع فقال رجل أو امرأة . قيل : هذا رواه حرام ، ورواه أيضا عمارة بن حرمي وهو ضعيف ، قال الشافعي حديث حرام قبوله حرام وابن السلماني ضعيف وعلى أنه لو صح لكان محمولا على جواز أن يشهد فيه الرجال إذا انفردوا ويشهد به النساء إذا انفردن ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية