الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 503 ] يزيد بن المهلب

                                                                                      ابن أبي صفرة ، الأمير ، أبو خالد الأزدي . ولي المشرق بعد أبيه ، ثم ولي البصرة لسليمان بن عبد الملك ، ثم عزله عمر بن عبد العزيز بعدي بن أرطاة ، وطلبه عمر وسجنه .

                                                                                      روى عنه ابنه عبد الرحمن ، وأبو إسحاق السبيعي .

                                                                                      مولده زمن معاوية سنة ثلاث وخمسين . وكان الحجاج قد عزله وعذبه ، فسأله أن يخفف عنه الضرب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم . فقصده الأخطل ومدحه ، فأعطاه مائة ألف ، فعجب الحجاج من جوده في تلك الحال وعفا عنه . واعتقله ، ثم هرب من حبسه .

                                                                                      وله أخبار في السخاء والشجاعة ، وكان الحجاج مزوجا بأخته ، وكان يدعو : اللهم إن كان آل المهلب برآء ، فلا تسلطني عليهم ، ونجهم .

                                                                                      وقيل : هرب يزيد من الحبس ، وقصد عبد الملك ، فمر بعريب في البرية ، فقال لغلامه : استسقنا منهم لبنا ، فسقوه فقال : أعطهم ألفا . قال : إن هؤلاء لا يعرفونك . قال : لكني أعرف نفسي .

                                                                                      وقيل : أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة الأمير ألف ألف درهم ، فمشى في جماعة إلى يزيد بن المهلب فأداها عنه ، وكان سليمان قد ولاه العراق وخراسان ، قال : فودعني عمر بن عبد العزيز وقال : يا يزيد ، اتق الله ; [ ص: 504 ] فإني وضعت الوليد في لحده فإذا هو يرتكض في أكفانه .

                                                                                      قال خليفة فسار يزيد إلى خراسان ثم رد منها سنة تسع وتسعين ، فعزله عمر بعدي بن أرطاة ، فدخل ليسلم على عدي ، فقبض عليه وجهزه إلى عمر ، فسجنه حتى مات عمر .

                                                                                      وحكى المدائني أن يزيد بن المهلب كان يصل نديما له كل يوم بمائة دينار ، فلما عزم على السفر ، أعطاه ثلاثة آلاف دينار .

                                                                                      قلت : ملوك دهرنا أكرم ! فأولئك كانوا للفاضل والشاعر وهؤلاء يعطون من لا يفهم شيئا ولا فيه نجدة ، أكثر من عطاء المتقدمين .

                                                                                      قيل : أمر يزيد بن المهلب بإنفاذ مائة ألف إلى رجل ، وكتب إليه : لم أذكرها تمننا ، ولم أدع ذكرها تجبرا .

                                                                                      وعنه ، قال : من عرف بالصدق جاز كذبه ، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه .

                                                                                      قال الكلبي : أنشد زياد الأعجم يزيد بن المهلب :

                                                                                      وما مات المهلب مذ رأينا على أعواد منبره يزيدا     له كفان كف ندى وجود
                                                                                      وأخرى تمطر العلق الحديدا



                                                                                      فأمر له بألف دينار .

                                                                                      وقيل : إنه حج ، فلما حلق رأسه الحلاق ، أعطاه ألف درهم ، فدهش بها ، وقال : أمضي أبشر أمي . قال : أعطوه ألفا أخرى . فقال : امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك . قال : أعطوه ألفين آخرين .

                                                                                      قيل : دخل حمزة بن بيض على يزيد في حبسه فأنشده : [ ص: 505 ]

                                                                                      أصبح في قيدك السماح مع ال     حلم وفن الآداب والخطب
                                                                                      لا بطر إن تتابعت نعم     وصابر في البلاء محتسب



                                                                                      فقال يزيد : ما لنا ولك يا هذا ؟ قال : وجدتك رخيصا ، فأحببت أن أسلفك . فقال لخادمه : كم معك من النفقة ؟ قال : نحو عشرة آلاف درهم . قال : ادفعها إليه .

                                                                                      غزا يزيد طبرستان ، وهزم الإصبهبذ ثم صالحهم على سبع مائة ألف وعلى أربعمائة حمل زعفران ، ثم نكث أهل جرجان فحاصرهم مدة ، وافتتحها عنوة ، فصلب منهم مسافة فرسخين ، وأسر اثني عشر ألفا ، ثم ضرب أعناقهم على نهر جرجان حتى دارت الطاحون بدمائهم .

                                                                                      وكان ذا تيه وكبر ، رآه مطرف بن الشخير يسحب حلته ، فقال له : إن هذه مشية يبغضها الله . قال : أوما تعرفني ؟ ! قال : بلى ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت بين ذلك تحمل العذرة .

                                                                                      وعنه ، قال : الحياة أحب إلي من الموت ، وحسن الثناء أحب إلي من الحياة .

                                                                                      وقيل له : ألا تنشئ لك دارا ؟ قال : لا ، إن كنت متوليا فدار الإمارة ، وإن كنت معزولا فالسجن . [ ص: 506 ]

                                                                                      قلت : هكذا هو ، وإن كان غازيا فالسرج ، وإن كان حاجا فالكور ، وإن كان ميتا فالقبر ، فهل من عامر لدار مقره ! .

                                                                                      ثم إن يزيد بن المهلب ، لما استخلف يزيد بن عبد الملك غلب على البصرة ، وتسمى بالقحطاني ، فسار لحربه مسلمة بن عبد الملك ، فالتقوا ، فقتل يزيد في صفر سنة اثنتين ومائة .

                                                                                      وقد استوعب ابن عساكر ، وابن خلكان أخبار [ يزيد بن ] المهلب بطولها .

                                                                                      قال شعبة بن الحجاج : سمعت الحسن البصري يقول في فتنة يزيد بن المهلب : هذا عدو الله يزيد بن المهلب ، كلما نعق بهم ناعق اتبعوه .

                                                                                      وعن أبي بكر الهذلي ، أن يزيد قال : أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز ، فخطب الحسن ، وقال : اللهم اصرع يزيد بن المهلب صرعة تجعله نكالا ، يا عجبا لفاسق غير برهة من دهره ، ينتهك المحارم ، يأكل معهم ما أكلوا ، ويقتل من قتلوا ، حتى إذا منع شيئا ، قال : إني غضبان فاغضبوا . فنصب قصبا عليها خرق ، فاتبعه رجرجة ورعاع ، يقول : أطلب بسنة عمر ، إن من سنة عمر أن توضع رجلاه في القيد ، ثم يوضع حيث وضعه عمر .

                                                                                      قلت : قتل عن تسع وأربعين سنة ، ولقد قاتل قتالا عظيما ، وتفللت جموعه ، فما زال يحمل بنفسه في الألوف ، لا لجهاد ; بل شجاعة وحمية ، حتى ذاق حمامه . نعوذ بالله من هذه القتلة الجاهلية .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية