الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون

                                                          الفتنة أصل معناها إدخال الذهب النار لتظهر جودته، وأطلقت الفتن في لغة القرآن على الشدائد التي تنزل ليختبر قلب المؤمن، فإن صبر ظهر إيمانه قويا شديدا، وإن خار ووهن كان من ضعفاء الإيمان ولقد قال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون

                                                          واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون، ونجاهم بفلق البحر، حتى مروا، وغلقه على فرعون وقومه، حتى غرقوا، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير، حسبوا أن الإيمان جلب لا سلب فيه، وهناءة لا يرنقها تعب، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم، حتى يصقل إيمانهم، وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات، لأنها تعمى وتصم، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع.

                                                          [ ص: 2301 ] ولذلك رتب الله تعالى على حسبانهم ألا فتنة تنزل أن عموا عن إدراك الحق، فلم يصلوا إليه، وأن صموا عن سماع الهادي فلم ينصتوا إليه، وبذلك سدت عليهم منافذ الإدراك، فلا عقل يدركون به إذ غشيته الشهوات حتى أعمته وجعلت عليه غشاوة ولا وعي يستمعون به إلى صوت الهداية.

                                                          وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم، فاستيقظت مداركهم وسمعت الحق آذانهم، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة، وهنا مباحث لفظية نذكرها، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم.

                                                          الأول: أن قوله تعالى: ألا تكون فتنة بنصب النون في تكون، وقرئ بضمها، والقراءة الأولى على أساس أن "حسب" بمعنى الظن الغالب، والثانية على أساس أن "حسب" بمعنى علم، والقراءتان متواترتان، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا، ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين.

                                                          الثاني: أن معنى: عموا وصموا فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لا يبصر، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم.

                                                          الثالث: أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم، يخرجهم الله منها، ثم عودتهم إلى ما كانوا عليه متكررا.

                                                          [ ص: 2302 ] الرابع: أن قوله تعالى: ثم عموا وصموا كثير منهم فيه معنى التراخي المعنوي لبعد ما بين التوبة والعمى والصمم. وكثير منهم بدل من الضمير، وفي هذا إشارة إلى تأصل الصمم والعمى حتى صاروا أهلا لأن يحكم على الجميع بسببهم ولكن عدل الله أخرج المهديين منهم.

                                                          بهذا ختمت الآية، وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر، وهو مجازيهم بأعمالهم، وهو فوقهم، وهو بكل شيء محيط.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية