الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( 38 ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ( 39 ) )

هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ ، فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) أي : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ( اثاقلتم إلى الأرض ) أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار ، ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي : ما لكم فعلتم هكذا ؟ أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة .

ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة ، فقال : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) كما قال الإمام أحمد .

حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع ؟ وأشار بالسبابة .

انفرد بإخراجه مسلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي ، حدثنا الربيع بن روح ، حدثنا محمد بن خالد الوهبي ، حدثنا زياد - يعني الجصاص - عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة ، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة ، قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف [ ص: 154 ] حسنة ، ثم تلا هذه الآية : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )

فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل .

وقال [ سفيان ] الثوري ، عن الأعمش في الآية : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) قال : كزاد الراكب .

وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه ، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار ، إن كان كثيرك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور .

ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال : ( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) قال ابن عباس : استنفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيا من العرب ، فتثاقلوا عنه ، فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم .

( ويستبدل قوما غيركم ) أي : لنصرة نبيه وإقامة دينه ، كما قال تعالى : ( إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] .

( ولا تضروه شيئا ) أي : ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ، ونكولكم وتثاقلكم عنه ، ( والله على كل شيء قدير ) أي : قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم .

وقد قيل : إن هذه الآية ، وقوله : ( انفروا خفافا وثقالا ) وقوله ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) [ التوبة : 120 ] إنهن منسوخات بقوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) [ التوبة : 122 ] روي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وزيد بن أسلم . ورده ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجهاد ، فتعين عليهم ذلك ، فلو تركوه لعوقبوا عليه .

وهذا له اتجاه ، والله [ سبحانه و ] تعالى أعلم [ بالصواب ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية