الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة؛ وكان فيهم رسل؛ وكان ربما قال متعنت: إن شأن الرسل غير شأن الأنبياء في الوحي؛ قال - عاطفا على ما تقديره - من معنى "أوحينا" -: "أرسلنا من شئنا من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا؛ إلى من شئنا من الناس -: ورسلا ؛ أي: غير هؤلاء؛ قد قصصناهم ؛ أي: تلونا ذكرهم؛ عليك ؛ ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي؛ قال: من قبل ؛ أي: من قبل إنزال هذه الآية؛ ورسلا لم نقصصهم عليك ؛ أي: إلى الآن. [ ص: 507 ] ولما كان المراد أنه لا فارق بين النبي؛ والرسول؛ في الوحي؛ نبه على ذلك بقوله: وكلم الله ؛ أي: الذي له الكمال كله؛ فهو يفعل ما يريد؛ لا أمر لأحد معه؛ موسى تكليما ؛ أي: على التدرج؛ شيئا فشيئا؛ بحسب المصالح؛ من غير واسطة ملك؛ فلا فارق في الوحي بين ما كان بواسطة؛ وبين ما كان بلا واسطة؛ والمعنى أنكم لو كنتم إنما تتوقفون عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتا؛ لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى - عليه الصلاة والسلام -؛ من الكرامة؛ لم تؤمنوا بإبراهيم؛ وإسحاق؛ ويعقوب؛ والأسباط؛ وهارون؛ وغيرهم؛ فإنه خص بالتكليم دونهم؛ فلم جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى - عليه الصلاة والسلام - شرطا في الإيمان ببعض الأنبياء؛ دون بعض؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة من السماء؛ مدعين أنه كان له ذلك؛ دون التكليم؛ وغيره؛ مما جعل له؛ كان ذلك - على تقدير التسليم تنزلا - تحكما؛ وترجيحا من غير مرجح؛ على أن التوراة أيضا - كما تقدم بيانه - كهذا القرآن في إنزالها منجمة؛ على حسب الوقائع؛ على ما أشار إليه قوله "تكليما"؛ ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان وضعا في تابوت الشهادة؛ كما أنزل بعض سور القرآن جملة؛ كسورة "الأنعام"؛ وليس في نزول موسى - عليه الصلاة والسلام - بهما من جبل الطور مكتوبين دليل [ ص: 508 ] على نزولهما من السماء؛ ويدل على ذلك كثير من نصوصها؛ أصرحها أنه (تعالى) حرم عليهم العمل في السبت؛ عقب إخراجهم من البحر؛ عند إنزال المن - كما بين في السفر الثاني منهما - ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر؛ بدليل ما في السفر الرابع منها؛ في قصة التيه: (ومكث بنو إسرائيل في البرية؛ ووجدوا رجلا يحتطب حطبا يوم السبت؛ فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى؛ وهارون؛ وإلى الجماعة كلها؛ وحبسوه في السجن؛ لأنه لم يكن أوحي إلى موسى كيف يصنع به؛ فقال الرب لموسى: يقتل هذا الرجل؛ يرجم بالحجارة خارجا من العسكر؛ ورجمه الجماعة كلها بالحجارة؛ ومات - كما أمر الرب موسى); ومنها أنه أمرهم - كما بين في السفر الثاني - بنصب قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها؛ ويسمع موسى الكلام منها؛ ثم بعد ذلك بمدة أمرهم - كما بين في السفر الرابع - بالزيادة فيها; ومنها أنه كتب له الألواح في الطور: اللوحين اللذين كسرهما غضبا من اتخاذهم العجل؛ ثم لوحين عوضا عنهما؛ ثم لما نصبت قبة الزمان صار - سبحانه وتعالى - يكلمه منها؛ وغالب أحكامهم إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان - كما هو في غاية الوضوح في التوراة; ومنها ما قال في أواخر السفر الخامس؛ وهو آخرها: فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر؛ وفرغ منها؛ أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب؛ وقال لهم: خذوا سفر هذه السنن واجعلوه [ ص: 509 ] في جوف تابوت عهد الله ربكم؛ في جانب من جوانبه؛ ليكون هناك شاهدا؛ لأني قد عرفت جفاءكم؛ وقساوة قلوبكم؛ وما تصيرون إليه؛ وكيف لا يكون ذلك وقد أغضبتم الرب؛ وأنا حي معكم؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك؛ فليجتمع إلي أشياخ أسباطكم؛ وكتابكم؛ فأتلو عليهم هذه الأقوال؛ ولأشهد عليهم السماء والأرض؛ لأنكم مفسدون من بعد وفاتي؛ تحيدون عن الطريق الذي آمركم به؛ شر شديد في آخر الأيام إذا عملتم السيئات بين يدي الرب؛ وأغضبتموه بأعمال أيديكم؛ وقال موسى - بين يدي جماعة بني إسرائيل -: أنصتي أيتها السماء فأتكلم؛ ولتسمع الأرض النطق من في - وقال كلاما كثيرا في ذمهم؛ أذكره إن شاء الله (تعالى) ؛ في "المائدة"؛ عند

                                                                                                                                                                                                                                      من لعنه الله وغضب عليه ؛ ثم قال: يقول الله: أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم؛ وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين - ومضى يتكلم من كلام الله؛ الذي هو من أحسن التوراة؛ إلى أن قال: فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم: أقبلوا بقلوبكم إلى هذه الأقوال; ثم قال: وكلم الرب موسى ذلك اليوم؛ وقال: [ ص: 510 ] اصعد إلى جبل العبرانيين؛ هذا جبل نابو الذي في أرض مواب؛ حيال إيريحا؛ وانظر إلى أرض كنعان التي أعطي بني إسرائيل ميراثا) - وذكر بعد ذلك كلاما طويلا؛ فيها كلها لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك؛ بل صريح؛ وفي قصة نوح وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجما - كما مضى عنهما في قصة إبراهيم - عليه السلام - في "البقرة"؛ ويأتي؛ إن شاء الله (تعالى) ؛ في ذكر الأحبار؛ في "الأعراف"؛ وفي قصة نوح - عليه الصلاة والسلام - في سورة "هود"؛ والله الموفق؛ وقد ابتدأ - سبحانه - في هذه الآية بنوح - عليه الصلاة والسلام - أول أولي العزم؛ وأصحاب الشرائع وجودا؛ وهو من أوائل الأنبياء؛ وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله (تعالى) ؛ ثم ثنى بثانيهم في الوجود؛ وهو إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -؛ ثم ذكر أولاده على ترتيبهم؛ والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب - عليه الصلاة والسلام - أنفسهم؛ وقبائلهم؛ ويكون المعنى حينئذ: وأنبياء الأسباط؛ ويكون مما استعمل في حقيقته؛ ومجازه؛ ويكون شاملا لجميع أنبياء بني إسرائيل؛ ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم؛ فبدأهم بآخرهم بعثا؛ [ ص: 511 ] وهو عيسى - عليه الصلاة والسلام - الذي هو أحد نبيي أهل الكتابين؛ وختم الآية بأحد أصحاب الكتب منهم؛ وهو جده المشهور بالنسبة إليه؛ فإن اليهود يقولون لعيسى - عليه الصلاة والسلام -: يا ابن داود؛ لأن أمه في ذريته؛ وختم الآية بأول نبيي أهل الكتابين؛ موسى - عليه الصلاة والسلام -؛ الذي آخر آجر تبنى على الإسلام؛ فانتقله المنتمون إلى أتباعه؛ ووسط أخاه هارون - عليه الصلاة والسلام - بين اثنين من أهل البلاء؛ أيوب؛ ويونس؛ واثنين من أهل الملك - وأحدهم صاحب كتاب - وهما سليمان وداود؛ وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فارق في كيفية الإيحاء نجوما إلى الأنبياء؛ بين متقدمهم؛ ومتأخرهم؛ سواء كان من بني إسرائيل؛ أو من غيرهم؛ وسواء منهم من أوتي الملك؛ ومن لم يؤته؛ ومن أتى بكتاب؛ ومن لم يأت; ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى؛ بعد دخولهم في العموم؛ أحد عشر أسماء؛ الأسباط أحدها؛ والمشهور بالكتب والصحف منهم ثلاثة: إبراهيم؛ وعيسى؛ وداود؛ وقد وقع كل منهم سادسا لصاحبه؛ وهو العد الذي كان فيه الخلق؛ فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة؛ فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق؛ فكذلك [ ص: 512 ] لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم؛ وبقاؤهم؛ دفعة؛ بل أنزلها منجمة؛ تبعا لمصالحهم؛ وتثبيتا لدعائمهم؛ ومن لطائفه أنه (تعالى) بدأ المذكورين؛ وختمهم باثنين من أولي العزم؛ اشتركا في أن كلا منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء؛ ترهيبا لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل؛ المدعين أنهم أتباع؛ ووسط بينهم وبين بقية المسمين عموم النبيين والمرسلين؛ ولعله آخر الرسل؛ ليفهم أن كل من عطفوا عليه مرسل؛ ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة؛ بمعنى أنها أعم منها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما سرد أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم؛ ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم؛ فالأقرب؛ من المرتبين على حسب ترتيب الوجود؛ إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه؛ وإخوانهم؛ وذرياتهم؛ والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية