الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة العاشرة : قوله تعالى : { إلا عابري سبيل } : أما من قال : إن المراد بقوله : { لا تقربوا الصلاة } لا تقربوا مواضع الصلاة ، فتقدير الآية عندهم : لا تقربوا المساجد وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل أي مجتازين غير لابثين ; فجوزوا العبور في المسجد من غير لبث فيه .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إن المراد بذلك نفس الصلاة فإن تقدير الآية : لا تصلوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا لها ، أو تكونوا مسافرين ، فتيمموا وتصلوا وأنتم جنب حتى تغتسلوا إذا وجدتم الماء .

                                                                                                                                                                                                              ورجح أهل القول الأول مذهبهم بما روي عن جابر بن عبد الله وابن مسعود أنه كان أحدنا يمر بالمسجد وهو جنب مجتازا .

                                                                                                                                                                                                              ورجح الآخرون بما روى أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة أن { النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الأبواب الشارعة إلى المسجد ، وقال : لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } . خرجه أبو داود وغيره . [ ص: 556 ]

                                                                                                                                                                                                              و المسألة تفتقر إلى تفصيل وتنقيح ، وقد أحكمناها في مسائل الخلاف بما نشير إليه هاهنا فنقول : لا إشكال في أن الآية محتملة ، ولذلك اختلف فيها الصحابة ; فإن أردنا أن نعلم المراد منها رجحنا احتمالاتها حتى نرى الفضل لمن هو فيها ; فأما أصحاب الشافعي فظهر لهم أن العبور لا يمكن في نفس الصلاة فلا بد من تأويل ; وأحسنه حذف المضاف وهو الموضع ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو الصلاة ; وذلك كثير في اللغة ، ولا يحتاج بعد ذلك إلى حذف كثير وتأويل طويل في قوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل } .

                                                                                                                                                                                                              قالوا : وأيضا فإن ما تأولتم في قوله : { إلا عابري سبيل } يفهم من الآية التي بعدها في قوله : { فتيمموا صعيدا طيبا } .

                                                                                                                                                                                                              وأما علماؤنا فقالوا : إن أول ما يحفظ سبب الآية التي نزلت عليه في الصحيح ، وتحفظ فاتحتها فتحمل على ظاهرها ، حتى نرى ما يردنا عنها ويحفظ لغتها ، فإنه تعالى قال : لا تقربوها بفتح الراء ، وذلك يكون في الفعل لا في المكان ، فكيف يضمر المكان ويوصل بغير فعله ؟ هذا محال . وتقدير الآية أنه قال سبحانه : لا تصلوا سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل . فإن قيل : كيف يكون العبور في نفس الصلاة ؟ قلنا : بأن يكون مسافرا ، فلم يجد ماء فيصلي حينئذ بالتيمم جنبا ، لأن التيمم لا يرفع حدث الجنابة .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : لا يسمى المسافر عابري سبيل . قلنا : لا نسلم ، بل يقال له عابر سبيل حقيقة واسما ، والدنيا كلها سبيل تعبر . وفي الآثار : " الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها " . وقد اتفقوا معنا على أن التيمم لا يرفع الجنابة . [ ص: 557 ]

                                                                                                                                                                                                              وأما قولهم : إن ما قلتم يفتقر إلى الإضمار الكثير . قلنا : إنما يفتقر إليه في تفهيم من لا يفهم مثلك ، وأما مع من يفهم فالحال تعرب عن نفسها كما أعربت الصحابة . وأما قولهم : إن هذا يفهم من الآية التي بعدها في قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . فليس يفهم من هذا إلا جواز التيمم عند عدم الماء ; فأما أن يكون التيمم لا يرفع الحدث مع إباحة الصلاة فليس يفهم إلا من هذا الموضع قبله ; وهي فائدة حسنة جدا .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الحادية عشرة : ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : { كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ، ويأتون المسجد فيتحدثون فيه } ، وربما اغتر بهذا جاهل فظن أن اللبث للجنب في المسجد جائز . وهذا لا حجة فيه ; فإن كل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة كيف يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، و لا يصح له أن يتلبس بها ؟ فإن قيل : يبطل بالحدث ، فإنه لا يحل فعل الصلاة ويدخل المسجد . قلنا : ذلك يكثر وقوعه ` فيشق الوضوء له ، والشريعة لا حرج فيها ، بخلاف الغسل ، فإنه لا مشقة في أن يمنع من المسجد حتى يغتسل ، لأنها تقع نادرا بالإضافة إلى حدث الوضوء . فإن قيل : هذا قياس ؟ قلنا : نعم ; هو قياس ; ونحن إنما نتكلم مع أصحاب محمد الذين يرونه دليلا ; فإن وجدنا مبتدعا ينكره أخذنا معه غير هذا المسلك كما قد رأيتمونا مرارا نفعله [ ص: 558 ] فنخصمهم ونبهتهم ; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { لم يكن أذن لأحد أن يمر فيه ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب } .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية