الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ( 41 ) وسبحوه بكرة وأصيلا ( 42 ) هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ( 43 ) تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما ( 44 ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 45 ) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( 46 ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ( 47 ) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 48 )

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1173 ] قوله : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا أمر - سبحانه - عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير وكل ما هو ذكر لله - تعالى - .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : هو أن لا ينساه أبدا ، وقال الكلبي : ويقال : ذكرا كثيرا بالصلوات الخمس ، وقال مقاتل : هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال .

                                                                                                                                                                                                                                      وسبحوه بكرة وأصيلا أي : نزهوه عما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل ، وهم أول النهار وآخره ، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما ، وخص التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله : اذكروا الله تنبيها على مزيد شرفه ، وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر ، وبالتسبيح أصيلا صلاة المغرب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة ، وابن جرير : المراد صلاة الغداة وصلاة العصر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكلبي : أما بكرة فصلاة الفجر ، وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد : والأصيل العشي وجمعه أصائل .

                                                                                                                                                                                                                                      هو الذي يصلي عليكم وملائكته والصلاة من الله على العباد رحمته لهم وبركته عليهم ، ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال ويستغفرون للذين آمنوا [ غافر : 7 ] قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : المعنى ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم ، والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها من الأمر بالذكر والتسبيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده ، وقيل : الثناء عليه ، وعطف ملائكته على الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله عليكم فأغنى ذلك عن التأكيد بالضمير بمعنى الدعاء لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة ، واللام في ليخرجكم من الظلمات إلى النور متعلق بـ يصلي أي : يعتني بأموركم هو و ملائكته ; ليخرجكم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات ، ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهدى ، ومعنى الآية : تثبيت المؤمنين على الهداية ودوامهم عليها ; لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر - سبحانه - برحمته للمؤمنين تأنيسا لهم وتثبيتا فقال : وكان بالمؤمنين رحيما وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة ، فقال : تحيتهم يوم يلقونه سلام أي : تحية المؤمنين من الله - سبحانه - يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة هي التسليم عليهم منه - عز وجل - .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام ، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيما فلما شملتهم رحمته ، وأمنوا من عقابه حيا بعضهم بعضا سرورا واستبشارا .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : سلام لنا من عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : المعنى فيسلمهم الله من الآفات ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الضمير في يلقونه راجع إلى ملك الموت ، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مقاتل : هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم [ الرعد : 23 ، 24 ] وأعد لهم أجرا كريما أي : أعد لهم في الجنة رزقا حسنا ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر - سبحانه - صفات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التي أرسله لها فقال : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا أي : على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به ، وعلى من كذبه وكفر به : قال مجاهد : شاهدا على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم ومبشرا للمؤمنين برحمة الله وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر ونذيرا للكافرين والعصاة بالنار ، وبما أعده الله لهم من عظيم العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وداعيا إلى الله يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به ، والعمل بما شرعه لهم ، ومعنى بإذنه بأمره له بذلك وتقديره ، وقيل : بتبشيره وسراجا منيرا أي : يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : وسراجا أي : ذا سراج منير أي : كتاب نير ، وانتصاب شاهدا وما بعده على الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      وبشر المؤمنين عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قال فاشهد وبشر ، أو فدبر أحوال الناس وبشر المؤمنين أو هو من عطف جملة على جملة ، وهي المذكورة سابقا ، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      أمره - سبحانه - بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا على سائر الأمم ، وقد بين ذلك - سبحانه - بقوله : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ الشورى : 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نهاه - سبحانه - عن طاعة أعداء الدين ، فقال : ولا تطع الكافرين والمنافقين أي : لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين ، وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة ودع أذاهم أي : لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدتك على أعدائه ، أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك ، فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الثاني مضاف إلى المفعول ، وهي منسوخة بآية السيف وتوكل على الله في كل شئونك وكفى بالله وكيلا توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشئون ، فمن فوض إليه أموره كفاه ، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : اذكروا الله ذكرا كثيرا يقول : لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، فقال : [ ص: 1174 ] اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ، بالليل والنهار ، في البر والبحر ، في السفر والحضر ، في الغنى والفقر ، وفي الصحة والسقم ، في السر والعلانية وعلى كل حال ، وقال : وسبحوه بكرة وأصيلا إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله : هو الذي يصلي عليكم وملائكته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم ، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر ولذكر الله أكبر [ العنكبوت : 45 ] وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد ، والترمذي ، والبيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، قلت : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل منه درجة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله - عز وجل - .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراءون .

                                                                                                                                                                                                                                      وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة ؟ فقال رجل : كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال : يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن البراء بن عازب في قوله : تحيتهم يوم يلقونه سلام قال : يوم يلقون ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : لما نزلت ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان أمر عليا ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن ، فقال : انطلقا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، فإنها قد أنزلت علي ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا قال : شاهدا على أمتك ، ومبشرا بالجنة ، ونذيرا من النار ، وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجا منيرا بالقرآن
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا تجزي بالسيئة السيئة ، ولكن تعفو وتصفح " زاد أحمد " ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث ، فقال : وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام ، ولم يقل : عبد الله بن عمرو ، وهذا أولى ، فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية