الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 461 ] سئل رحمه الله تعالى - ما هو " لقاء الله سبحانه ؟ " الذي وصف بظنه الخاشعين بقوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون } وأمر بعلمه المتقين في قوله تعالى { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } وبشر بالإقرار به عند المصيبة الصابرين وأشار إلى إتيان أجله للراجين بقوله تعالى : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } واشتهر ذكره في غير حديث من كلام سيد المرسلين كقوله في دعائه : { لقاؤك حق } وقوله : { من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه } الحديث ؟ ؟ . وهل يصح قول بعض المفسرين من أنه متعلق بمحذوف تقديره جزاء ربهم أو نحوه بكونه مما لا يصح أن يضاف إلى الله تعالى حقيقة فيستحيل ظاهره ويكون المراد منه غير ظاهره ويصار فيه إلى تأويل معين ؟ أم هو مستغن عن ذلك لجوازه في نفسه ؟ وكيف يتصور منا محبة من لا نعرفه ولا نطلع عليه ؟ أم كيف يتأتى شوقه وحنين القلوب إليه وإيثاره على ما سواه مما هو عندنا معروف ولقلوبنا مألوف ؟ ولنا به منفعة عاجلة ولذة حاصلة . [ ص: 462 ] وقد قالت عائشة رضي الله عنها كراهية الموت وكلنا نكره الموت .

                فرد صلى الله عليه وسلم قولها بما تضمنه الحديث { من رؤية المؤمن ما له عند الله من النعيم فأحب الله لقاءه } الحديث . وقد يعترض على هذا سؤال وهو أنه إذا كان حبه اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة حينئذ للنعيم العائد إليه لا لمجرد لقاء الله تعالى فكيف يجازى عليه بحب الله تعالى لقاءه ومحبته غير خالصة وإنما يتقبل الله من الأعمال ما كان خالصا . بينوا لنا هذه الأمور البيان الشافي بالجواب الصحيح الكافي طلبا للأجر الوافي إن شاء الله تعالى ؟ ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب رضي الله عنه وأرضاه : الحمد لله . " أما اللقاء " فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير ; وقالوا : إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات " اللقاء " على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم . وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال . في قوله : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ولا يرائي أو قال : ولا يخبر به أحدا وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين : ( أحدهما : السير إلى الملك ( والثاني معاينته . كما قال : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } فذكر أنه يكدح إلى الله فيلاقيه والكدح إليه يتضمن السلوك والسير إليه واللقاء يعقبهما . وأما المعاينة من غير مسير إليه - كمعاينة الشمس والقمر - فلا يسمى لقاء .

                وقد يراد باللقاء الوصول إلى الشيء والوصول إلى الشيء بحسبه . ومن دليل ذلك أن الله تعالى قد قال : { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } { إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وقال : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } الآية . وقال : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } وقال : { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } . وقال تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين } . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا } وفي الصحيحين { عن أبي هريرة أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة وهو جنب فانفتل فذهب فاغتسل ; ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء قال : أين كنت ؟ قال يا رسول الله لقيتني وأنا جنب فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل .

                فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله إن المؤمن لا ينجس
                } وفي لفظ : [ ص: 464 ] { لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم } وهو في مسلم عن حذيفة أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب فذكر معناه } . وفي صحيح مسلم عن بريدة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال } الحديث . وفي حديث عتبة بن عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القتلى ثلاثة : رجل مؤمن جاهد بماله ونفسه في سبيل الله حتى إذا لقي عدوا قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت ظل عرشه لا يفضله إلا النبيون بدرجة النبوة ورجل فرق على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى قتل فمصمصة تحت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء للخطايا وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى قتل فإن ذلك في النار إن السيف لا يمحو النفاق } رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه ومثل هذا كثير في كلام العرب كقول الشاعر :

                متى ما تلقى فرد من ترجو وأبو السنل



                [ ص: 465 ] ويستعمل " اللقاء " في لقاء العدو ولقاء الولي ولقاء المحبوب ولقاء المكروه وقد يستعمل فيما يتضمن مباشرة الملاقي ومماسته مع اللذة والألم كما قال : { إذا التقى الختانان وجب الغسل } وفي الحديث الصحيح : { إذا قعد بين شعبها الأربع والتزق الختانان فقد وجب الغسل } . ومن نحو هذا قوله : { إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } وقوله : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } وقوله : { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما } ويقال : فلان لقي خيرا ولقي شرا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض } . وقد يقال : إن " اللقاء " في مثل هذا يتضمن معنى المشاهدة كما قال تعالى { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه } لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور .

                وقد قيل : إن الموت نفسه يشهد ويرى ظاهرا . وقيل : المرئي أسبابه .

                وقد جاء في الكتاب والسنة ألفاظ من نحو " لقاء الله " كقوله : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } وقوله : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا } وقوله : { وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } وقوله : { إن ربك لبالمرصاد } وقوله : { إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه } وقوله : { كلا لا وزر } [ ص: 466 ] { إلى ربك يومئذ المستقر } وقوله : { إن إلى ربك الرجعى } وقوله : { إنا لله وإنا إليه راجعون } وقوله : { إليه المصير } وقوله : { إن إلينا إيابهم } { ثم إن علينا حسابهم } . لكن يلزم هؤلاء " مسألة " تكلم الناس فيها وهي أن القرآن قد أخبر أنه يلقاه الكفار ويلقاه المؤمنون كما قال : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } { فأما من أوتي كتابه بيمينه } { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } { وينقلب إلى أهله مسرورا } { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } { فسوف يدعو ثبورا } { ويصلى سعيرا } وقد تنازع الناس في الكفار هل يرون ربهم مرة ثم يحتجب عنهم أم لا يرونه بحال تمسكا بظاهر قوله : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } ولأن الرؤية أعظم الكرامة والنعيم والكفار لا حظ لهم في ذلك . وقالت طوائف من أهل الحديث والتصوف : بل يرونه ثم يحتجب كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي في الصحيح وغيره من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مع موافقة ظاهر القرآن قالوا وقوله : { لمحجوبون } يشعر بأنهم عاينوا ثم حجبوا ودليل ذلك قوله : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فعلم أن الحجب كان يومئذ . فيشعر بأنه يختص بذلك اليوم وذلك إنما هو في الحجب بعد الرؤية . فأما المنع الدائم من الرؤية فلا يزال في الدنيا والآخرة .

                [ ص: 467 ] قالوا : ورؤية الكفار ليست كرامة ولا نعيما ; إذ " اللقاء " ينقسم إلى لقاء على وجه الإكرام ولقاء على وجه العذاب فهكذا الرؤية التي يتضمنها اللقاء . ومما احتجوا به الحديث الصحيح حديث سفيان بن عيينة حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : { هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ } وقد روى مسلم وأبو داود وأحمد في المسند وابن خزيمة في التوحيد وغيره قال : { قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في رؤية الشمس ليست في سحابة ؟ قالوا : لا . قال : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما . قال : فيلقى العبد فيقول : أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . يا رب : قال فيقول : فظننت أنك ملاقي . فيقول : لا . فيقول : فإني أنساك كما نسيتني . ثم قال يلقى الثاني فيقول له : مثل ذلك . فيقول : أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع . فيقول : هاهنا إذا .

                قال : ثم يقال الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ; فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل فذلك المنافق ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط الله عليه وتمام الحديث قال : ثم ينادي مناد ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد فتتبع الشياطين والصليب أولياؤهم إلى جهنم وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا فيقول : ما هؤلاء ؟ فنقول : من عباد الله المؤمنين آمنا بربنا ولم نشرك به شيئا وهو ربنا تبارك وتعالى وهو [ ص: 468 ] يأتينا وهو يثبتنا وهو ذا مقامنا حتى يأتينا ربنا فيقول : أنا ربكم . فيقول : انطلقوا . فننطلق حتى نأتي الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف عند ذلك حلت الشفاعة لي اللهم سلم اللهم سلم فإذا جاوزوا الجسر فكل من أنفق زوجا من المال في سبيل الله مما يملك فتكلمه خزنة الجنة تقول : يا عبد الله يا مسلم هذا خير . فقال : أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إن هذا عبد لا توى عليه يدع بابا ويلج من آخر ؟ فضرب كتفه وقال : إني أرجو أن تكون منهم
                } قال سفيان بن عيينة حفظته أنا وروح بن القاسم وردده علينا مرتين أو ثلاثا .

                وسئل سفيان عن قوله : { ترأس وتربع } فقال كان الرجل إذا كان رأس القوم كان له الرباع وهو الربع . { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ; حيث قال يا رسول الله إني على دين قال : أنا أعلم بدينك منك إنك مستحل الرباع ولا يحل لك } . وهذا الحديث معناه في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا ; وفيه أنه سئل عن الرؤية فأجاب بثبوتها ثم أتبع ذلك بتفسيره وذكر أنه يلقاه العبد والمنافق وأنه يخاطبهم . وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة { أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين بعد ما تجلى لهم أول مرة ويسجد المؤمنون دون المنافقين } وقد بسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع .

                [ ص: 469 ] وأما الجهمية من المعتزلة وغيرهم فيمتنع على أصلهم لقاء الله ; لأنه يمتنع عندهم رؤية الله في الدنيا والآخرة وخالفوا بذلك ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم . وما اتفق عليه الصحابة وأئمة الإسلام من أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة واحتجوا بحجج كثيرة عقلية ونقلية قد بينا فسادها مبسوطا وذكرنا دلالة العقل والسمع على جواز الرؤية . وهذه " المسألة " من الأصول التي كان يشتد نكير السلف والأئمة على من خالف فيها وصنفوا فيها مصنفات مشهورة . ( والثاني : أن عندهم لا يتصور الكدح إليه ولا العرض عليه ولا الوقوف عليه ولا أن يحبه العبد ولا أن يجده ولا أن يشار إليه ولا أن يرجع إليه ولا يئوب إليه ; إذ هذه الحروف تقتضي أن يكون حال العبد بالنسبة إليه في الآخرة - وبينهما فضل - يقتضي تقربا إليه ودنوا منه وأن يكون حال العبد بالنسبة إليه مخالف لحاله في الدنيا وهذا كله محال عندهم فإنهم لا يقرون بأن الخالق مباين للمخلوق - كما اتفق السلف والأئمة وصرحوا بأنه مباين للخلق ; ليس داخلا في المخلوقات ولا المخلوقات داخلة فيه - بل تارة يجعلونه حالا بذاته في كل مكان ; وتارة يجعلون وجوده عين وجود المخلوقات وتارة يصفونه بالأمور السلبية المحضة ; مثل كونه غير مباين للعالم ولا حال فيه فهم بين أمرين :

                [ ص: 470 ] إما أن يصفوه بما يقتضي عدمه وتعطيله فينكرونه وإن كانوا يقرون به فيجمعون - في قولهم - بين الإقرار والإنكار والنفي والإثبات . وقد يصرح بعضهم بصحة الجمع بين النقيضين ويقول : إن هذا غاية التحقيق والعرفان . وإما أن يصفوه بما يقتضي أنه عين المخلوقات أو جزء منها أو صفة لها وذلك أيضا يقتضي قولهم بعدم الخالق وتعطيل الصانع ; وإن كانوا مقرين بوجود موجود غيره وإن جعلوه إياه . ثم يجدون في المخلوقات مباينا في ربوبية المخلوق فيقولون بالجمع بين النقيضين - كما تقدم - . وقد يقولون بعبادة الأصنام وإن عباد الأصنام على حق وعباد العجل على حق وإنه ما عبد غير الله قط ; إذ لا غير عندهم ; بل الوجود واحد ويقولون بامتناع الدعوة إليه وأنه يمكن أن يتقرب إليه ويصل إليه وهم يقولون : ما عدم في البداية فيدعى إلى الغاية ; بل هو عين المدعو فكيف يدعو إلى نفسه ؟ . وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية وتكفيرهم كثير جدا .

                وهؤلاء ومن وافقهم على بعض أقوالهم التي تنفي حقيقة اللقاء يتأولون " اللقاء " على أن المراد به لقاء جزاء ربهم ويقولون إن الجزاء قد يرى كما في قوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } فإن ضمير المفعول في رأوه عائد إلى الوعد والمراد به الموعود أي فلما رأوا ما وعدوا سيئت وجوه الذين كفروا . ومن قال إن الضمير عائد هنا إلى الله فقوله ضعيف وفساد قول الذين يجعلون المراد " لقاء الجزاء " دون لقاء الله معلوم بالاضطرار بعد تدبر الكتاب والسنة يظهر فساده من وجوه : - ( أحدها : أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين . ( الثاني : أن حذف المضاف إليه يقارنه قرائن فلا بد أن يكون مع الكلام قرينة تبين ذلك كما قيل في قوله : { واسأل القرية التي كنا فيها } ولو قال قائل : رأيت زيدا أو لقيته مطلقا وأراد بذلك لقاء أبيه أو غلامه لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع ولقاء الله قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقا غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله لقاء بعض مخلوقاته من جزاء أو غيره .

                ( الثالث : أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب ودار مرة بعد مرة على وجه واحد وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق ولم يبين ذلك كان تدليسا وتلبيسا يجب أن يصان كلام الله عنه الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين وأنه بيان للناس وأخبر أن الرسول قد بلغه البلاغ المبين وأنه بين للناس ما نزل إليهم وأخبر أن عليه بيانه ولا [ ص: 472 ] يجوز أن يقال : ما في العقل دلالة على امتناع إرادة هذا المعنى هو القرينة التي دل المخاطبين على الفهم بها ; لوجهين . ( أحدهما : أن يقال : ليس في العقل ما ينافي ذلك ; بل الضرورة العقلية والبراهين العقلية توافق ما دل عليه القرآن كما قال : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } وما يذكر من الحجج العقلية المخالفة لمدلول القرآن فهو شبهات فاسدة عند من له خبرة جيدة بالمعقولات دون من يقلد فيها بغير نظر تام . ( الثاني : أنه لو فرض أن هناك دليلا عقليا ينافي مدلول القرآن لكان خفيا دقيقا ذا مقدمات طويلة مشكلة متنازع فيها ليس فيها مقدمة متفق عليها بين العقلاء ; إذ ما يذكر من الأدلة العقلية المخالفة لمدلول القرآن هي شبهات فاسدة كلها ليست من هذا الباب .

                ومعلوم أن المخاطب - الذي أخبر أنه بين للناس وأن كلامه بلاغ مبين وهدى للناس - إذا أراد بكلامه ما لا يدل عليه ولا يفهم منه إلا بمثل هذه القرينة لم يكن قد بين وهدى ; بل قد كان لبس وأضل وهذا مما اتفق المسلمون على وجوب تنزيه الله ورسوله بل وعامة الصحابة والأئمة من ذلك . ( الرابع : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن [ ص: 473 ] فيهن أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق ; اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وإليك حاكمت وبك خاصمت اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت } وفي لفظ : { أعوذ بك أن تضلني ; أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون } . ففي الحديث فرق بين لقائه وبين الجنة والنار .

                والجنة والنار تتضمن جزاء المطيعين والعصاة فعلم أن لقاءه ليس هو لقاء الجنة والنار . ( الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في غير حديث ما يبين لقاء العبد ربه كما في الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ; فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه فتستقبله النار ; فمن استطاع أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يستطع فبكلمة طيبة } إلى أمثال ذلك من الأحاديث . ( السادس : أنه لو أريد " بلقاء الله " بعض المخلوقات - إما جزاء وإما غير جزاء - لكان ذلك واقعا في الدنيا والآخرة فكان العبد لا يزال ملاقيا لربه ولما علم المسلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن لقاء الله لا يكون إلا بعد الموت : علم بطلان أن " اللقاء " لقاء بعض المخلوقات .

                ومعلوم أن الله قد جازى خلقا على [ ص: 474 ] أعمالهم في الدنيا بخير وشر كما جازى قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ; وكما جازى الأنبياء وأتباعهم ولم يقل مسلم إن لقاء هذه الأمور في الدنيا لقاء الله ولو قال قائل إن لقاء الله جزاء مخصوص وهو الجنة مثلا أو النار لقيل له ليس في لفظ هذا [ لقاء ] مخصوص ولا دليل [ عليه ] وليس هو بأولى من أن يقال لقاء الله تعالى لقاء بعض ملائكته أو بعض الشياطين وأمثال ذلك من التحكمات الموجودة في الدنيا والآخرة ; إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا فبطل ذلك . ( الوجه السابع : أن " لقاء الله " لم يستعمل في لقاء غيره لا حقيقة ولا مجازا ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا ; بل حيث ذكر هذا اللفظ فإنما يراد به لقاء المذكور ; إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به فلا يدل عليه .

                ( الوجه الثامن : أن قوله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما } { تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما } فلو كان " اللقاء " هو لقاء جزائه لكان هو لقاء الأجر الكريم الذي أعد لهم وإذا أخبر بأنهم يلقون ذلك لم يحسن بعد ذلك الإخبار بإعداده ; إذ الإعداد مقصوده الوصول فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود ؟ هذا نزاع بين العي الذي يصان عنه كلام أوسط الناس فضلا عن كلام رب العالمين ; لا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية وذلك لا يكون إلا في اللقاء المعروف ; لا في حصول شيء من النعيم المخلوق . [ ص: 475 ] ( الوجه التاسع : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه } أخبر فيه أن الله يحب لقاء عبد ويكره لقاء عبد وهذا يمتنع حمله على الجزاء ; لأن الله لا يكره جزاء أحد ولأن الجزاء لا يلقاه الله ; ولأنه إن جاز أن يلقى بعض المخلوق كالجزاء أو غيره جاز أن يلقى العبد فالمحذور الذي يذكر في لقاء العبد موجود في لقائه سائر المخلوقات فهذا تعطيل النص . وإما أن يقال : بل هو لاق لبعضها فيتناقض قول الجهمي ويبطل . ودلائل بطلان هذا القول لا تكاد تحصى يضيق هذا الاستفتاء عن ذكر كثير منها فضلا عن أكثرها .



                [ ص: 476 ] فصل وأما قول السائل : كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه ولا نطلع عليه إلى آخره فيقال له : هذه مسألة أخرى كبيرة وهي " مسألة محبة المؤمن ربه " فإن الكتاب والسنة تنطق بذلك كقوله { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقوله : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقوله : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقوله تعالى { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } الآية .

                وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار } . وأمثال ذلك من النصوص وهذه المحبة على حقيقتها عند سلف الأمة وأئمتها ومشايخها وأول من أنكر حقيقتها شيخ الجهمية الجعد بن درهم فقتله [ ص: 477 ] خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر وقال : يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه . فإن هؤلاء أنكروا حقيقة " الخلة " لأن الخلة كالمحبة وأنكروا حقيقة " التكليم " وجعلوا التكليم ما يخلقه في بعض الأجسام أو هو من جنس الإلهام حتى ادعى طوائف منهم أن أحدنا قد يحصل له التكليم كما حصل لموسى عليه السلام بل سمع عين ما سمعه موسى والله تعالى قد بين اختصاص موسى بذلك عن سائر الأنبياء فكيف عن سائر المؤمنين والأولياء كما قال تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } إلى قوله : { وكلم الله موسى تكليما } ففرق بين الإيحاء والتكليم كما فرق بين الإيحاء والتكليم من وراء حجاب في قوله : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } وكما بين هذه الخاصية في قوله : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات }

                . ثم هؤلاء الذين أنكروا حقيقة المحبة لم يمكنهم إنكار لفظها ; لأنه جاء في الكتاب والسنة ففسروا محبته بعبادته وطاعته وامتثال أمره أو محبة أوليائه ونحو ذلك مما يضاف إليه ; ولو علموا أن محبوب الغير لا يكون محبوبا إلا إذا كان [ ص: 478 ] ذلك الغير محبوبا فيكون هو المحبوب بالذات والوسائل يحبون بالعرض . ولو تدبروا قولهم لعلموا أنه مستحيل أن تحب عبادته أو أولياؤه إذا لم يكن هو محبوبا فإذا قدروا أنه هو شيء ليس محبوبا لذاته : كانت محبة العمل الذي يحصل الأكل والشرب إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب والنكاح وكان ذلك من جنس محبة سائر المشتهيات ; فإذا تكون محبة الله ورسوله إنما هي في الحقيقة محبة الأكل والشرب إذا كان الله لا يحب لنفسه على رأي هؤلاء . وهذه " المسألة " أصل عبادة الله كما أن " المسألة الأولى " أصل الإقرار بالله ; فتلك فيها ذهاب النفس والمال كما قال تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } الآية . ولهذا نعت المحبين المحبوبين بقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } بل أصل " الولاية " الحب وأصل " العداوة " البغض وإنكار الحب والبغض يتضمن إنكار ولاية الله وعداوته كما أنكر بعض الفقهاء قوله : { إنه لا يعز من عاديت } وقوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وهذا باب طويل وقد كتبت في هذين الأصلين عددا يبلغ أكثر من الأسفار وكلام الأولين والآخرين من أهل العلم والإيمان موجود في هذا .

                فقول القائل : كيف نتصور عبادة من لا نعرفه ; إذ الإيمان بما لا نعرفه أو الطاعة لما لا نعرفه أو التسبيح والتحميد بما لا نعرفه ونحو ذلك من [ ص: 479 ] العبادات ; فهذه الأمور لا يمكن أن تتعلق بمجهول من كل وجه ; إذ ذلك ممتنع لا يجب أن تكون معرفته للمعبود المحبوب كمعرفته بنفسه ; بل ليس لنا في الوجود من نحبه أو نبغضه ; ونحن نعرفه كمعرفة الله به والمعرفة قد تكون من جهة الاستدلال والنظر . ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا ويتفاوتون في درجات العرفان والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله . وقد قال : { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه وهي مسألة كبيرة . والذي مضى عليه سلف الأمة وأئمتها : أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان } وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع وبعضه لفظي مع أن الذي عليه أئمة أهل السنة والحديث - وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم - أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وأئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم - مع جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان - متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب كما تقوله الخوارج ; ولا يسلب جميع الإيمان كما تقوله المعتزلة ; لكن بعض الناس قال : إن إيمان الخلق مستو فلا يتفاضل إيمان أبي بكر وعمر وإيمان الفساق ; بناء على أن التصديق بالقلب واللسان أو بالقلب وذلك لا يتفاضل . [ ص: 480 ] وأما عامة السلف والأئمة فعندهم أن إيمان العباد لا يتساوى بل يتفاضل وإيمان السابقين الأولين أكمل من إيمان أهل الكبائر المجرمين . ثم النزاع مبني على الأصلين .

                ( أحدهما : العمل . هل يدخل في مطلق الإيمان ؟ فإن العمل يتفاضل بلا نزاع . فمن أدخله في مطلق الإيمان قال : يتفاضل . ومن لم يدخله في مطلق الإيمان احتاج إلى ( الأصل الثاني وهو أن ما في القلب من الإيمان هل يتفاضل ؟ فظن من نفى التفاضل أن ليس في القلب - من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه وأمثال ذلك مما قد يخرجه هؤلاء عن محض التصديق - ما هو متفاضل بلا ريب ثم نفس التصديق أيضا متفاضل من جهات : ( منها أن التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون مجملا وقد يكون مفصلا ; والمفصل من المجمل ; فليس تصديق من عرف القرآن ومعانيه والحديث ومعانيه وصدق بذلك مفصلا كمن صدق أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر ما جاء به لا يعرفه أو لا يفهمه . ( ومنها : أن التصديق المستقر المذكور أتم من العلم الذي يطلب حصوله مع الغفلة عنه . ( ومنها : أن التصديق نفسه يتفاضل كنهه ; فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان وأميط عنه كل أذى وحسبان حتى بلغ أعلى الدرجات ; درجات الإيقان كتصديق زعزعته الشبهات وصدفته الشهوات ولعب به [ ص: 481 ] التقليد ويضعف لشبه المعاند العنيد وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد . ولهذا كان المشايخ - أهل المعرفة والتحقيق السالكون إلى الله أقصد طريق - متفقين على الزيادة والنقصان في الإيمان والتصديق كما هو مذهب أهل السنة والحديث في القديم والحديث وهذه مسائل كبار لا يمكن فيها إلا الإطناب بمثل هذا الجواب .



                [ ص: 482 ] فصل وأما قول السائل : قد يعترض على هذا السؤال وهو إذا كان حب اللقاء ; لما رآه من النعيم فالمحبة حينئذ للنعيم العائد عليه لا لمجرد لقاء الله . فيقال له : ليس كذلك ; ولكن لقاء الله على نوعين : " لقاء محبوب " و " لقاء مكروه " كما قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج : كيف القدوم على الله تعالى ؟ فقال : المحسن كالغائب يقدم على مولاه وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه . فلما كان اللقاء نوعين - وإنما يميز أحدهما عن الآخر في الإخبار بما يوصف به هذا اللقاء وهذا اللقاء - وصف النبي صلى الله عليه وسلم " اللقاء المحبوب " بما تتقدمه البشرى بالخير وما يقترن به من الإكرام و " اللقاء المكروه " بما يتقدمه من البشرى بالسوء وما يقترن به من الإهانة ; فصار المؤمن مخبرا بأن لقاءه لله لقاء محبوب والكافر مخبرا بأن لقاءه لله مكروه : فصار المؤمن يحب لقاء الله وصار الكافر يكره لقاء الله ; فأحب الله لقاء هذا وكره لقاء هذا { جزاء وفاقا } . فإن الجزاء بذلك من جنس العمل كما قال صلى الله عليه وسلم { الراحمون [ ص: 483 ] يرحمهم الرحمن ارحموا ترحموا ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } وكما قال صلى الله عليه وسلم { من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة . والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه }

                . وفي الحديث الصحيح الإلهي : { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة } وقال صلى الله عليه وسلم { من كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة } وقال : { من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة } وقال : { لا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم } . وقال تعالى : { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } وقال تعالى : { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا } ومثل هذا في الكتاب والسنة كثير يبين فيهما أن الجزاء من جنس العمل . وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي [ ص: 484 ] يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ; فبي يسمع وبي يبصر وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ; ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . فبين سبحانه أن العبد إذا تقرب إليه بمحابه من النوافل بعد الفرائض أحبه الرب كما وصف وهذا ما احتملته هذه الأوراق من الجواب . والحمد لله رب العالمين .




                الخدمات العلمية