الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب صيد البحر

قال الله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه روي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدي ومجاهد قالوا : ( صيده ما صيد طريا بالشباك ونحوها ) . فأما قوله : وطعامه فقد روي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وقتادة قالوا : ( ما قذفه ميتا ) . روي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا : ( المملوح منه ) . والقول الأول أظهر ؛ لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد ، وأما المملوح فقد تناوله قوله صيد البحر ويكون قوله : وطعامه على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول .

فإن قال قائل : هذا يدل على إباحة الطافي لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد . قيل له : إنما تأول السلف قوله : وطعامه على ما قذفه البحر ، وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه .

فإن قيل : قالوا ما قذفه البحر ميتا ، وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه ، وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي . قيل له : وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا ؛ إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا ؛ وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب . وقد روي عن الحسن في قوله : وطعامه قال : ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب

رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن ؛ فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض ؛ لأن العرب تسمي ما اتسع بحرا ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه لأبي طلحة : وجدناه بحرا أي واسع الخطو . وقد روى حبيب بن الزبير عن [ ص: 145 ] عكرمة في قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر أنه أراد بالبحر الأمصار ، لأن العرب تسمي الأمصار البحر .

وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر قال : ( البر الفيافي التي ليس فيها شيء ، والبحر القرى ) . والتأويل الذي روي عن الحسن غير صحيح ؛ لأنه قد علم بقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار ؛ لأنه عطف عليه قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وقوله تعالى : متاعا لكم وللسيارة روي عن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا منفعة للمقيم والمسافر .

فإن قال قائل : هل اقتضى قوله : أحل لكم صيد البحر إباحة صيد الأنهار ؟ قيل له : نعم ؛ لأن العرب تسمي النهر بحرا ، ومنه قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا ، إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة انتظم الأنهار أيضا .

وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء ، فسائر حيوان الماء يجوز للمحرم اصطياده ، ولا نعلم خلافا في ذلك بين الفقهاء . وقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر ؛ وقد اختلف أهل العلم فيه ، والله أعلم .

ذكر الخلاف في ذلك : قال أصحابنا : ( لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ) ، وهو قول الثوري رواه عنه أبو إسحاق الفزاري . وقال ابن أبي ليلى : ( لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك ) ، وهو قول مالك بن أنس ؛ وروي مثله عن الثوري ، قال الثوري : ( ويذبح ) . وقال الأوزاعي ( صيد البحر كله حلال ) ، ورواه عن مجاهد . وقال الليث بن سعد : ( ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء ، ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء ) . وقال الشافعي : " ما يعيش في الماء حل كله وأخذه ذكاته ، ولا بأس بخنزير الماء " .

واحتج من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وهو على جميعه ؛ إذ لم يخصص شيئا منه . ولا دلالة فيه على ما ذكروا ؛ لأن قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم ، ولا دلالة فيه على أكله . والدليل عليه أنه عطف عليه قوله : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فخرج الكلام مخرج بيان اختلاف حكم صيد البر [ ص: 146 ] والبحر على المحرم . وأيضا فإن الصيد اسم مصدر ، وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد ، ألا ترى أنك تقول : ( صدت صيدا ) ؟ وإذا كان ذلك مصدرا كان اسما للاصطياد الذي هو فعل الصائد ، ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد ، إلا أن ذلك مجاز ؛ لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل ، وتسمية الشيء باسم غيره إنما هو استعارة .

ويدل على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قول النبي صلى الله عليه وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، فخص من الميتات هذين ، وفي ذلك دليل على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله : حرمت عليكم الميتة هو هذان دون غيرهما لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله : حرمت عليكم الميتة وقوله تعالى : إلا أن يكون ميتة وذلك عموم في ميتة البر والبحر . ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالة على حظره ما عداه . وأيضا لما خصهما بالذكر وفرق بينهما وبين غيرهما من الميتات دل تفرقه على اختلاف حالهما ؛ ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ولحم الخنزير وذلك عموم في خنزير الماء كهو في خنزير البر .

فإن قيل : إن خنزير الماء إنما يسمى حمار الماء . قيل له : إن سماه إنسان حمارا لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة ، فينتظمه عموم التحريم . ويدل عليه حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان قال : ذكر طبيب الدواء عند النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الضفدع يكون في الدواء ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله والضفدع من حيوان الماء ، ولو كان أكله جائزا والانتفاع به سائغا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله ، ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر ، كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته ، لأنا لا نعلم أحدا فرق بينهما .

واحتج الذين أباحوه بما روى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته . وسعيد بن سلمة مجهول لا يقطع بروايته ، وقد خولف في هذا الإسناد ، فروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن المغيرة بن عبد الله وهو ابن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سودة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته . وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبو [ ص: 147 ] القاسم بن أبي الزناد قال : حدثنا إسحاق يعني ابن حازم عن ابن مقسم يعني عبيد الله عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذه الأخبار لا يحتج بها من له معرفة بالحديث

، ولو ثبت كان محمولا على ما بينه في قوله : أحلت لنا ميتتان . ويدل على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره ، وإنما ذكر ما يموت فيه ، وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعا إذا ماتا فيه ، وقد علم أنه لم يرد ذلك ، فثبت أنه أراد السمك خاصة ما سواه ؛ إذ قد علم أنه لم يرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه . واحتج المبيحون له بحديث جابر في جيش الخبط وأن البحر ألقى لهم دابة يقال لها العنبر ، فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل معكم منه شيء تطعمونيه ؟ وهذا لا دليل فيه على ما قالوا ؛ لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى حوتا يقال له العنبر ، فأخبروا أنها كانت حوتا وهو السمك ، وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية